تكثر في الآونة الأخيرة دعوات لعقد اتفاقات تطبيع مع "إسرائيل"، غالبًا تحت عنوان "لبنان يريد السلام". ويتساءل عدد من اللبنانيين عن جدوى العداء لـ"جار" يمتلك هذه القدرة التدميرية وعن إمكانية الاقتداء بنموذج البلدان العربية المطبّعة. فهل "السلام مع إسرائيل" ممكن، أم أنها حتمًا كيان عدواني؟
كيان احتلالي توسّعي
منذ نكبة فلسطين ولبنان معني مباشرة بالصراع العربي الإسرائيلي لأسباب بديهية منها الحدود البرية مع فلسطين المحتلة، واللجوء الفلسطيني إلى لبنان (والذي يشكّل اعتداءً إسرائيليًّا على الفلسطينيين المهجّرين كما على لبنان الذي هُجّروا قسرًا إليه)، وكذلك الأراضي اللبنانية المحتلة. ولا ننسى الاعتداءات الإسرائيلية حتى قبل انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني من لبنان، والملحوظة في أرشيف مجلس النواب، ومنها الهجوم على المطار وتدمير طائرات "طيران الشرق الأوسط" عام 1968 بزعم "الرد" على عملية نفذها مقاومون فلسطينيون لا تربطهم أية صلة بلبنان. ونضيف إليها ما استجد من نزاع على الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، وأطماع الكيان في غازنا.
إذا استثنينا معركة المالكية فإن لبنان لم يشارك عملياً مع الجيوش العربية في حرب 1948. وقد أمر مجلس الأمن في قرارَيه 61 و62 الصادرَين عام 1948 أطراف النزاع في فلسطين بإعلان هدنة. استمرت الهدنة نظامًا لمراقبة الأمن في منطقة الحدود لكنّ حرب الخامس من حزيران 1967 والتي لم يشارك فيها لبنان، دفعت بـ"إسرائيل" إلى إعلان تخلّيها عنها، مخالفةً في ذلك ما يسمّى "القانون الدولي". وعلى فرض أن اتفاقيات السلام بين بلدين هي الطريقة الأفضل لمنع الاعتداءات، فإن لبنان ليس بحاجة إلى اتفاقية سلام مع الكيان الإسرائيلي. لماذا؟ لأن اتفاقية الهدنة لا تزال قائمة حسب "القانون الدولي"، وهي تجبر الكيان الإسرائيلي على احترام حدودنا.
وعليه فلنضع حجة الاتفاقيات جانباً، ولنسأل: هل يستطيع لبنان أن يطمئن إلى كيان مجاور له، قام على الاحتلال والإبادة والتهجير؟ فدولة "إسرائيل" حتى لو افترضنا جدلاً أنها دولة شرعية وطبيعية فإنها ستظل خطراً على جيرانها لأنها:
متفوقة عسكرياً وتكنولوجياً بما لا يمكن مقارنته، وتمتلك السلاح النووي.
حاصلة على دعم الولايات المتحدة ودول الاستعمار، ومحصّنة ضد "القانون الدولي".
لديها تاريخ من العدوان على من ترى في الاعتداء عليه وسرقة أراضيه مصلحة لها، ولديها أطماع في مياه لبنان، وغازه.
ترفض مبدأ حق العودة، وتحتل الجولان.
كما أن جوهر الكيان توسعي، فـ"إسرائيل الكبرى" فكرة قديمة متجددة. شملت خريطة "إسرائيل" التي اعتمدتها المنظمة الصهيونية العالمية عام 1919 بعضاً من جنوب لبنان. وفي الآونة الأخيرة عرض نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خريطة تظهر كلمة "إسرائيل" على كامل فلسطين. ويتبنى الوزيران سموتريتش و بن غفير عقيدة "إسرائيل الكبرى". وقد ظهرت أخيرًا خارطة "إسرائيل الكبرى" تضمّ أرض لبنان على عتاد جنود الاحتلال في غزة.
وعليه فإن مجرد بقاء الكيان الإسرائيلي في فلسطين يشكل تهديداً عسكريًا للبنان، الذي لن تحميه أي اتفاقية سلام.
مشروع هوياتي تفتيتي
يضاف إلى ما سبق خطر "المنطق" الصهيوني على تماسك مجتمعنا. فالمشروع الصهيوني يبرّر وجود دولة يهودية على أساس زعم أن لليهود حقاً بتقرير المصير من خلالها، بل إنهم يحتاجونها للهروب من الاضطهاد في مجتمعاتهم الأصلية. لا يمنح هذا الزعم حق احتلال فلسطين. لكن لا بد من الإشارة أيضًا إلى خطره الضمني، حتى لو وُظّف على نحو غير احتلالي (مثلًا من خلال إقامة الدولة اليهودية على أرض بلا شعب). فهو ينطلق من رؤية هوياتية، إذ يفترض أن دين مجموعة ما هو أساس كاف لامتلاكها دولة خاصة بها، وأنه لا بد لاختلاف الهويات أن يقود إلى العنف. فيصير "الحل" عندئذ عزل الهويات، أي تفتيت المجتمع.
وهذا ما يشكّل خطرًا على كل المجتمعات التي يحتكّ بها، لاسيما المجتمع اللبناني المصاب أصلًا بالتفكك الطائفي والوارث لنظام تحاصص من الاستعمار. فالاعتراف بشرعية "الدولة اليهودية" يكرّس منطقًا تفتيتيًا نراه في لبنان من خلال القيد الطائفي وعدم توحيد المناهج الدراسية والشبكات الزبائنية الزعاماتية والتقسيم المناطقي واعتبار أن الحل هو الفدرالية أو التقسيم، أي الانفصال عن "الآخر" والتحوّل إلى "إسرائيلات" صغيرة.
كما أن من مصلحة الدولة اليهودية وجود دول أو دويلات طائفية-عنصرية لإضفاء "شرعية" نسبية على وجودها. فتعمل بشكل فاعل على تأجيج النعرات الهوياتية في محيطها، كتوظيفها هويات الدروز والبدو في فلسطين، والموارنة في لبنان، والأكراد في سوريا والعراق، والمسيحيين في السودان، والشيعة في أذربيجان، والأمازيغ في المغرب العربي، والهندوس في الهند، وحتى المشاركة في إبادة المايا في غواتيمالا.
إن الكيان الإسرائيلي كيان احتلالي ذو جوهر توسعي، ويوظّف الهويات لتفتيت المجتمعات التي يستهدفها، وهو بذلك يشكّل خطرًا وجوديًا على لبنان، أرضًا ومجتمعًا. وعليه، إن "السلام مع إسرائيل" طرح سريالي يتجاهل واقعها العدواني. لا يعني ذلك أن على اللبنانيين التوحد تحت رايات من يحملون عنوان العداء للمشروع الصهيوني اليوم؛ فالاختلاف السياسي طبيعي بل صحي. لكن فليكن إدراكنا خطرَ المشروع الصهيوني منطلقًا للمشاريع السياسية التي نطرحها.