في ظل هذا المجون والغليان في منطقة الشرق الأوسط، وحكماً مصدره إسرائيل، هذا الكيان الذي بات يفكّر ملياً بأسباب البقاء وسبيل الخلاص الأبدي من مشكلة انفجرت في وجهه في السابع من أكتوبر على يد نموذج مصغّر عمّا كان يحضّره له المحور بخط سيره من طهران إلى غزّة، مروراً بصنعاء وبغداد ودمشق وبيروت. استطاع هذا المحور أن يراكم قوّة تحث توازن نسبي بالمقدّرات العسكرية ثانياً وأولاً بوحدة الرؤية وإرادة إلحاق الأذى بإسرائيل، الغدة التي زرعت بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط على أشلاء الفلسطينيين في دير ياسين وخان يونس ورفح والشاطئ والبريج وكل غزّة كلّ يوم.
إن إسرائيل تعرف حدودها جيداً وتنشد حدودها المرسومة في خيال من تورات ووعود، وهي تقول لنفسها لم آت لأرحل بل لأتوسع وأطبع جلدي من لون هذه الأرض، لهذا ابتدأ المشروع بالتطبيع مع دول الجوار مع ضمانات بعدم التجرؤ حتى على إيذاء هذه الفكرة، فكانت كامب دايفد وأوسلو ووادي عربة ومحادثات أبراهام.
لكن قبل هذا كله، ومنذ النشأة كان التفكير بأسوأ الحالات، ماذا لو كان الطوق معادياً، ماذا لو رفضت الشعوب هضم فكرة وجود إسرائيل في الجوار وسارت الأنظمة في ركبها، ماذا لو أقدمت الجيوش على قضم إسرائيل. فكان الدأب والسعي على حيازة السلاح النووي قبل أيّ شيء، حتى كان الشغل الشاغل لشيمون بيريز ابن بولندا وصبي بن غوريون المدلل الذي أحرج فرنسا والغرب واستجدى الخبرات الذريّة ليكون أول المؤسّسين لحلم إسرائيل النوويّ.
كبر هذا الحلم، حتى بات الإصبع الذي تهدد فيه إسرائيل كلما شعرت بالتهديد الوجودي، وليست أحداث 1973 إلّا نموذجاً عن وجدان إسرائيل، حين أعلنت رئيسة حكومة الكيان حينها غولدا مائير "الاستنفار النوويّ" في وجه مصر وسوريا في حرب تشرين الأول، فكانت الولايات المتحدة المنذر والناصح والمهدّد ضمناً لسوريا ومصر بأنّ الصواريخ النووية ستدخل الخدمة في وجه أيّ حماقة قد تقدم عليها هاتان الدولتان واللعب بمصير إسرائيل، الكيان الحالم بالسيطرة من البحر الى النهر.
هذا "الاستنفار النووي" ليس تهديداً يوضع في إطار رسائل الحرب النفسية أو الحرب بين الحروب، إن اللحظة النووية في مواقيت الكيان هي لحظة حقيقية يدعمها وجود 200 رأس نووي ومفاعل ديمونا، جاهزة لأيّ قرار يؤخذ على المستوى السياسي والعسكري في لحظة يمينية وجودية متطرفة.
تعريجاً على اليوم، وهو الوقت الذي لم تكن فيه "إسرائيل" السياسية بهذا التطرف إطلاقاً وبهذا المجون أبداً، وما تصريحات وزير الحرب يوآف غالانت وسموتريتش وبن غفير وعلى رأسهم "بيبي" نتنياهو إلّا مثال واضح وجلي على تعنّت هذه الطبقة وإزدرائها لكلّ ما لا يصبّ في مصلحة إسرائيل الحلم، والفلسطينيين حكماً ليسوا في الحسابات البشرية لهذه الطبقة، والتخطيط والسعي بالدرجة الأولى لإبادتهم مع وجود المحظورات الدولية النسبية، وتهجيرهم كأقل تقدير الى الأردن ولبنان ومصر، وهي بالمناسبة دول لا تعترف بها وليدة بيلفور ووديعة أميركا في الشرق الأوسط.
لكي لا ننسى، إن يوليوس أوبنهايمر الذي حولّ هيروشيما وناكازاكي الى رماد رغم بكائه وقتها، وما نفع الدمع والناس رماد، أوبنهايمر هذا كان يهيودياً عرض مساعدته حتّى قبل قيام الدولة الصهيونية عام 1948، حيث التقى المفكر الإنجليزي اليهودي أول رئيس لإسرائيل حاييم وايزمان في مدينة برنستون الأميركية، وعرض استمالة العلماء النويين الذين عملوا في مشروع مانهاتن النووي للعمل في مشروع إسرائيل لتطوير السلاح النووي.
إنّ أولوية العقل اليهودي الإسرائيلي المستقى من خلفية دينية وميثيولوجية أنّ اليهودي الصهيوني متفوّق بالخلق على الفلسطيني، وكأن لم يكن هناك يهودي فلسطيني، ولكن هذا الفلسطيني لا حقّ له في الحياة ولا الوطن ولا حتى في بقايا دولة على حدود 1967 أو أي مشروع كذبة يروّج له في حلّ الدولتين، وأيّ دولتين مع هذه الطبقة المتطرفة.
في ذروة المجون الإسرائيلي لا بدّ من وقوف نووي، وإعادة نظر في السلاح النووي كرادع ووزن ثقيل في ميزان السلم، فإنّ الذي يمتلكه يضع ألف حساب لغيره الذي يمتلكه، فإنّ الأمم وإن غصنا طائفياً ودينياً، والدين يستعمل لتغطية كافة الحروب، فإنّ السلاح النووي موجود في يد الإنجيليين في أميركا والمسيحيين عموماً، وبيد الهندوس والبوذيين والهند عامّةً، والسنة في باكستان والشيوعيين في الصين وفي كوريا الشمالية والأرثوذكس في روسيا الاتحادية وغيرها، أمّا الشيعة وعلى رأسهم الجمهورية الإسلامية في إيران وبفتوى مرشد ثورتها الأعلى تحرم حيازة السلاح النووي وهذا ما تعرفه أميركا جيداً، ومن ثمّ تعمل عكسه، لكنّ عدم وجود هذا السلاح النووي بيد إيران يشكل ثغرة في عوامل ردع إسرائيل، ولو كان موجوداً أحدث حسابات أخرى لدى وكالات الاستخبارات والعقل السياسي الذي خطط لاستباحة طهران.
أخيراً، إنّ اللحظة النووية حاضرة في العقل الإسرائيلي، وعلى الموجود في هذه الغابة من الموتورين أن يعيد النظر في السلاح النووي كعامل ردع وورقة في ميزان القوى، وليس سلاحاً مراد هدفه اللإستراتيجي الإبادة وحلّ النزاعات بالطرق الدموية. إنّ أفضل طريقة للدفاع في هذا الزمن هو حيازة الرؤوس النووية.