منذ عام 1914 حتى اليوم، أي منذ بدء الحرب العالمية الأولى حتى اليوم، لم تر البلاد الشرقية والعربية وبالتحديد بلاد الشام، أي لبنان، سوريا، فلسطين، وأجزاء من العراق، السلام يوماً. عاشت هذه البلاد في الحروب والأزمات وكانت مدنها وعواصمها وقراها مراكز للطمع والسيطرة. أولاً، بدأت القصة بالاحتلال الفرنسي والإنجليزي لهذه الدول وتقسيمها كما يشاءان، بعدما كانت هذه الدول قوة وقوى تجارية وصناعية وزراعية لا مثيل لها في العالم. عزز الاحتلال الغربي الطائفية في هذه البلاد، وقسم ونظم المناطق بحسب الطوائف، وأسس دول تتقاسم المناصب السياسية و"العسكرية" فيها على حسب الطوائف. وحتى إخراج القيد والهوية "الوطنية"، أصبحت طائفة الإنسان محفورة عليها وكأنها تنادي بصوت مرتفع.
ثم جاء الاحتلال الإسرائيلي، صنع الاحتلال الغربي، وأخذ فلسطين مركزاً عن طريق المجازر، وأصبح ينتهك سيادة لبنان وسوريا يومياً، ليحتل بعدها جزءاً كبيراً من لبنان والجولان في سوريا. بعدها، بدأت النزاعات الداخلية في لبنان، والحروب "الأهلية" في لبنان، ثم العراق، فسوريا، والتي هي، وكما لقب عميد الصحافة اللبنانية، الأستاذ الراحل غسان تويني، الحرب الأهلية اللبنانية، بأنها"حرب الآخرين على أرض لبنان". واليوم، تأتي حرب غزة لـ"تتوج" سلسلة الحروب والمجازر والانهيارات التي تحصل على أرضنا، أساس الكون وبداية الحضارات في العالم.
تنهار كل القطاعات في الحروب وتبنى مجدداً، القطاع الصناعي، الزراعي، السياحي، التجاري، الطبي.... لكن، كيف يمكن إعادة بناء القطاع البشري والاجتماعي والفكري؟ كيف يمكننا إعادة الوقت وتربية الأجيال وتعليمها وتثقيفها، بعدما حرمت من أبسط حقوقها، وهو "العلم".
هذا الطفل الذي كبر في مجتمع حيث يعفى من المدرسة عاماً، ولا يستطيع الذهاب إلى المدرسة بسبب الحروب عاماً آخر، أو يضطر إلى ترك المدرسة ليعمل بسبب الأزمات الاقتصادية، من سيكون في المستقبل؟ وأي مجتمع سيكون لدينا في المستقبل؟
إن ذكاء الغرب، وما يختلف به عن الشرق، وبالتحديد العرب، هو أنهم يخططون لسنوات للأمام، ولا يأخذون خطوة فورية أو يقومون بعمل مؤقت. عندما أسس الغرب في البداية دول تحكمها النزاعات الطائفية، لم يكن ينظر فقط إلى الخمسينيات أو الستينيات أو السبعينيات، بل كان يعلم أننا سنصل إلى مرحلة، وفي عام 2024، لا خبز فيها، كي يتعلم الطفل، لا مدرسة ولا جامعة يمكنها استقبال الناس، إلا إذا كان باستطاعته دفع الأموال مقابل العلم.
كي يكون المجتمع متطوراً، عليه أن يكون راقياً ومنفتحاً. كي يكون منفتحاً، عليه أن يكون مثقفاً، وكي يكون مثقفاً، عليه أن يكون متعلماً، وأن يكون العلم فيه متوفراً لكل الناس، الفقراء قبل الأثرياء، وأن يكون إجبارياً، وألا يكون اختيارياً للناس "المرتاحة" فقط، أو أن يعاني الطلاب ليكتسبوا العلم وينهون علمهم بعد مسيرة حافلة بالتحديات والصعوبات لا يعيشها أي تلميذ آخر في العالم.
عندما ينحصر عقل الإنسان ويصبح محدوداً بكيف سيعيش، وكيف سيؤمن لقمة العيش، وكيف لن يموت من الجوع، لن يكون لديه المجال ولا المساحة ولا الوقت ولا الرغبة ليفكر كيف سيتطور ويستقل فكرياً ويكتسب العلم والمعرفة والثقافة. وبما أننا ما زلنا نعيش في حروب، وبما أننا سنظل نعيش في حروب، ستلد أجيال أكثر تخلفاً وأمية وتطرفاً وتعصباً وانغلاقاً وطائفية أو أكثر فقراً وقهراً ومجاعة وحرماناً. المجتمع الذي سيولد في المستقبل سيكون حافلاً بالجرائم والجهل.
الحل الوحيد لإيقاف هذه النار المفتوحة علينا، وليست النار هنا القذائف والصواريخ العالمية التي تعتدي علينا يوماً بعد يوم، بل نار الجهل والحرمان من الثقافة والمنع من التفكير والعلم والتطور، هو الانتفاضة. الانتفاضة الحقيقية، الانتفاضة الشعبية والفكرية. فلنفعل أي شيء! فلنحرق أنفسنا كي يصدقوا أننا مقهورون، فلنتخلّ عما تبقى مما نملك كي يصدقوا أننا منتفضون. ها هم يقتلوننا يوماً بعد يوم، بكل الطرق والوسائل المتاحة لهم. فلنقتل أنفسنا نحن، المهم... ألا نبقى "صامتين" بحجة أننا "صامدون"، ونكذب على أنفسنا وعلى أطفالنا. الانتفاضة تبدأ على حكام هذه البلاد التي تخدم الاحتلالات وهم بمثابة "موظف" عند الاحتلال.
عندما ننتفض، نكون قد فعلنا شيئاً واحداً فقط، نكون قد احترمنا أنفسنا وأجبرنا الاحتلال والعملاء الذين يعملون له على احترامنا، بعدما قلل من احترامنا كل الكون، واستقل بنا الجميع.