1. تصنيف قاتل
هناك فريق من الناس لا يَهنأ له العَيش إلَّا بتَصنيف الآخَرين وعَزلهم لأنّهم "غير مُطابِقين"[ تذكرون هذا الشعار الذي أطلقه يومًا وائل ابو فاعور.].
وهناك أُناسٌ يَقبلون الآخَرين ويَحترمون الاختلاف، ويَطيب لهم العَيش في الغنى المُتبادَل، جاعلًين الكَوكَب كقَوسِ قُزَح - في السلام وزَهْوِ الألوان.
هل يجوز تصنيف البشر، ومن أين يأتي، وما هي تبِعاته؟
لدَينا مثَل يقول: "الإنسان عدُوَّ نفسه"، وهو قَولٌ حقّ. فمَن يَجهل نفسه لا يُمكنه أن يُقدّرها حقّ قدْرها. وبالتالي، يسمح لِسِواه بالاستفراد به وتَهشيم صورته والإساءة إليه بألفِ طريقةٍ وطريقة. ولا يتَواني، هو بدَوره، عن القيام بالفِعل عَينه مع أشباهه عبر التجاوز والتعدّي على الغَير[ مثَلًا: الخلافات على الإرث وتركة الآباء والأجداد قد فرّقت بين الأخوة، وأدّت إلى نشوء العداوة بينهم، ما دفعهم لاحقاّ إلى الاقتتال.]، والخُصومة والمُباعَدة. فيَدخل البشَر في دوّامة العُنف[ "فسُوء الخلُق عند الفرد ينعكس سلوكاً سلبياً على محيطه القريب والبعيد؛ ويؤلّد عداوة وكرهاً فيه، ويفقده عناصر الأمان الأسري والاجتماعي المتمثّلة بالحب والمودّة والتعاطف والتراحم...، فإن ما ينتج عن السلوك الأخلاقي السيّئ من الرذائل الأخلاقية؛ من الغيبة والنميمة، وهتك الحرمات، والغضب الكثير، وعدم مراعاة آداب العلاقة والقيم التي تبتني عليها العلاقات الاجتماعية والإنسانية، يكون كالسرطان الذي يتغلغل في قلب المجتمع ليقضي عليه من الداخل، فتضعف أركانه وتنهار". راجع: الشيخ حسن أحمد الهادي، مركز المعارف للدراسات الثقافيّة، 15/ 10/ 2020. ] دون طائل.
لُغةً، "العدوّ مُصطلَح نسبيّ، يُستخدَم لوَصف كينونةٍ تُمثِّل خطرًا، أو تتَّصِف بأفكارٍ مُضادَّة". العدوّ بمعنى "كَينونة تُمثِّل خطرًا" خبِرناها في لبنان منذ عقودٍ طويلة[ منذ تهجير الرعيل الفلسطينيّ الأوّل الذي شارك في استغلاله سياسيّو لبنان ورجال الدِّين والإكليروس والرهبانيّات. فالحرب "الكَونيّة" على عدد من الدوَل العربيّة ولا سيّما الجارة سوريا بدءًا من العام 2011 بالتواطؤ مع سياسيِّين لبنانيِّين وغير لبنانيِّين.] وبدأ العالم الواسع يَختبر هذا النوع من "الكَينونة الخطرة" مُمثَّلةً بـ"الصهيونيّة"، وتحديدًا تجاه فلسطين وأفريقيَا وغَيرِهما ومن خلال ضرب القيَم[ بينها ثورة 1968 والحروب ذات الطابَع الدينيّ لإسقاط الشيوعيّة والسيطرة على نفط وغاز الشرق الأوسط تحديدًا، ونظريّة "صراع الحضارات" ... إلخ.] وتِدمير العالم[ عبر الحروب المتنقِّلة والأوبئة وشركات الدواء والغذاء والأسلحة العابرة للقارّات التي تستبدّ بالأسواق وبحياة الناس ... إلخ.] بألف طريقةٍ وطريقة. وقد اختَبرنا النوع الثاني من الكَينونة الخطرة "التي تتَّصف بأفكارٍ مُضادَّة" حيث أوقعنا أنفُسنا في تصنيفٍ قاتلٍ كمُجتمع لبنانيّ:"نحن/هم؛ محور الخير/محور الشرّ؛ حضارة الحياة/حضارة الموت ... ما يُؤدّي إلى نَزع الطابَع الإنساني عن الآخَر "العدُوّ". حتّى إنّ كلّ واحد منّا يُطالب صاحبه بأن يُشاركه نظرته، مُوالياً من يُواليه، ومُعاديًا من يُعاديه...
ولنتذكّر أن مهما بلغَت الخُصومة بيني وبين الآخَر عليّ الحِرص على ألَّا "أَشفي صدري منه بالكلام؛ لأنّ ما يُقال في هذه الساعة من تلاسُن يكون أوسع من مَوضع الخصومة، ويُثير من المِحن والأحقاد ودَفائن القلوب ما يظلُّ حَيًّا لا يُنسى ولو حدَث الصِلح بَعدها". ذلك أنّ "جِراحات السِنان لها التِئام…… ولا يَلتام ما جرَح اللِّسان"[ أحمد سالم، قواعد الصداقة.].
2. صداقة
بينَما "الصداقة فيما أرى هي أهمّ العلاقات الإنسانية بعد علاقات الرَحم والزواج، يُفيد أحمد سالم. وهي رغم ذلك من أقلُّ العلاقات التي يَنشغل الناس بفَقهِها وتعلُّم أساسيّاتها ووسائل النجاح فيِها"[ المرجع السابق.].
ما يَجمع صديقَين، في البداية، هو نوع من التآلف النفسي (صفاء النيّة، التعاطُف، مُشترَكات ...)، ولا يُشترط أن يَصحب ذلك اتّفاق في الطباع. ولا توجَد شروط لصداقة مثاليّة، فأنا نفسَي لستُ مثاليًا. لذا ينبغي التركيز على جودة معدن الشخص، وعلى"التغافُل والصَفح (والتَناسي) وسلامة الصَدر وتَنقِيَة النَفس. فلا كثرةَ المُصارَحة والعِتاب تُصلح العلاقات، ولا أن تَطوي نفسك على المَلامَة وتخزّنها على الضغينة من خطأ صاحبِك يُصلحها، والصَفح الجميلُ صفحٌ بلا مُعاتبة.
3. "كُنْ صديقي"
الصداقة عُنصرٌ يجعل كَوكبَنا مَوئِلًا للجميع. لكن ما هي العناصر التي تُحوِّل "قريَتنا الكَونيّة" إلى واحة سلام وحياة للجميع؟
التربية على الصداقة هي أحد أهمّ العناصر ليكون كَوكبُنا واحة سلامٍ وحياة للجميع. إذ هي تربية على الحُرِّيَّة المسؤولة التي تأبى المِزاجيّة والشهوة الرديئة[ تتعلّق بالمال، الأكل والشرب، الجاه والمركز، التحكّم والسيطرة على الآخرين، الغيرة القاتلة، الحسَد، ... ]، حفاظًا على النظام العامّ للمجتمع وأركانه، وتحترم حرّيّة كلِّ فرد وجماعة وحقوقهما في الإطار الذي تقدَّم. والصداقة ترعى العدل الاجتماعيّ خصوصًا حقوق البُؤَساء والمُعوَزين والمُستَضعَفين، وتُزكِّي المَيل إلى الزُهد، فتَستقيم حياة المُجتمع.
لكن على مستوى الدُوَل ماذا نرى؟
لقد أوضح وِنْستُون تْشِرشِل أن "لا صداقات دائمة بين الدوَل ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة". وهذا ما اسمَوه "الواقعيّة السياسيّة".
يُشير د. رشود بن محمد الخريف[ في مقالته"لا صداقة دائمة ولا عداء دائم بين الدول"، 18 يوليو 2021.] إلى أنّ "العلاقات الدُوَليّة هي تفاعُلات بين الدوَل تأخذ أحد النمطَين: النمَط التعاونيّ[ "يفضِّل الرجل الحكيم عدم دخول الحرب على الفوز بها"، يقول Francois de La Rochefoucauld.] أو الصِراعيّ. والأخير هو الأكثر شُيوعًا ... باستخدام القوّة الاقتصاديَة والاجتماعيّة والعِلميّة والثقافيّة..."، يعني نُحاصرُك من كلّ الجِهات فكُن شاكرًا لنا ومسرورًا. هذا ما عبَّر عنه هنري كسينجِر في مقابلةٍ له حيث صرَّح: "ليس من مصلحة أميركا أن تحلّ أي مشكلة في العالم، لكن من مصلحتها أن تُمسك بخُيوط المشكلة وتُحرّكها حسب المصلحة القَوميّة الأميركيّة"[ مُنير شفيق، الصراع العالميّ الجديد، الأخبار، 19 آب 2024.].
كيف يُمكن تحويل العدُوّ إلى صديق؟
بأن أكون واعيًا وفاعلًا لا انفِعاليًّا، ماسِكًا زِمام الأُمور. فأَرفُض أن أكون طرَفًا في العداوة مَهما يكُن حجم الاستفزاز. وأُفوَّتَ على الطرف الآخر فرصةَ إيجاد مُبرِّرٍ لكَراهيّتِه، جانِحًا بالمَوقف نحوَ السلام. نعم، تَغيِير النَظرة للطرَف الآخَر هامٌّ جدًّا، إذ يَجعل الطرفَين رابح/رابح، غير أنّه يتطلّب بعض الوقت.
إذا تمكَّنتُ من النظر بموضوعيّة إلى سلوك مَن يكُنّ لي العداوة وأقواله، فمن المُحتمل أن أُدركَ أنَّ عداءَه لي نابع من عذابه النفسي وليس لأسباب شخصيّة ضدّك. وكلّ ما هنالك أنَّ هذا الشخص يُحاول أن يتخلَّص من مشاعره المؤلمة من خلال إيذائي. يوجد دائمًا فُرصة لحلِّ أيِّ نِزاع[ "الوُدُّ هو سبيلكَ الوحيد لتَكوين صداقات"، كما يُفيد Ralph Waldo Emerson الفيلسوف الأميركيّ.] ما دام التواصُل مُستمرًا والاعتذار[ " النصر في النزاعات والمعارك يكون دائمًا من نصيب الشخص الذي يَشعر بالندَم أولًا"، بحسَب الفيلسوف الصينيّ لآو تْزُو Lao Tzu.] وارِدًا. عندما تصِل إلى صِفر عداوة، "فلن تَشعر بمَزيد من الغضَب[ استل من نفس عدوك الضغينة بلطفك وأنت الرابح السعيد.] بسبَب ما يَلحق بك من أذَى، وبالطَبع ليسَ الأمر بهَذه السُهولة".