أول مرّة أشعر أن الخوف والحزن قد أكلا نصفاً مني. هدوءٌ مريبٌ لم تعرفه روحي أبداً. مشاعرُ باردةٌ لم أعشها قبل الآن. في الأيام الأولى من رحلة غربتي هذه، كنتُ أحدّق بالمارّة ببرودة، بلا شعور، بملامح فارغة. أُحاول فهم ما أشعر وما لا أشعر به، إلّا أنني كنت أقترب، أقترب ولا أصل، حتّى خُيّل إليّ أنّني انتزعت قلبي من أحشائي ودفنته بعيداً عني.
حزينة أنا وقد صرت كمحطة لعاشقين لم يلتقيا، كباقة زهور منسيّة على أحد المقاعد، كرسائلي التي لم تصل، ككلماتي الّتي أكتبها في دفتري ولا يقرؤها أحد، كأفكاري التي تتخبّط في ذهني.
حزينة أنا والصور التي التقطها وأنا أضحك، أبكتني.
حزينة أنا والغربة أسقمتني ولم يشفني سوى كتف أبي، حضن أمّي وضحكات أخوتي الّذين أراهم في ملامح العابرين الغرباء، تُرسم في وجوهم ضحكاتهم، تُسمع أصواتهم، أَنطق بأسمائهم فلا يسمعونني. أنسى أنّني أعيش وحدي والذّكريات هي الّتي تلاحقني كظلّي. ما لي إلّا أن أتبع أثر الزهر، عساه يردّني إليهم ولو لمرّة.
سأكتب في خانة قصّتي عن لحظات الوداع، عندما كان داخلي يتآكل وأنا أقبّل جبين أبي ويديه أحفظ كلّ تفصيل في ملامحه الملائكيّة آخذه في أحضاني، فكانت أمنيتي آنذاك أن يتوقف الزمن. سأكتب عن كلّ مرّة تعثّرت فيها، إلّا أنّني كنتُ أعود لأستقيم بفضل أمّي، المحاربة، الّتي مهما شكرتها وجدت أنّ شكري إيّاها يفتقر دائماً إلى شكر. وأعلم أنّني عاجزة كلّ العجز عن أن أفيها كلّ ما فعلته لأجلي. سأكتب كيف كانت اللّيالي طويلة وداخلي يئنّ ببردٍ وسكون، لكنّ مكالمة من أخي كانت شمساً تدفئني، وسماع صوت الآخر الصغير يقوّيني. أمّا عن أختي فهي الّتي تشفيني. سأكتب عن جمال ما رأيته منهم وما بقي في روحي رغم ذبولي، لكنّني بالتأكيد سأشرق لأجلهم بعد كلّ هذا.
انتهى الزمن الّذي كان فيه أهلنا يخافون علينا في الغربة وأصبحنا نحن في غربتنا نخاف عليهم في الوطن.