النهار

مئوية غريغوار حداد
المصدر: النهار - الاب ايلي قنبر
مئوية غريغوار حداد
نخلةٌ عنقاء من لبنان جاوَرت العالميّة، عنَيتُ بها نخله حدّاد -إبن عين الرمّانه، قضاء عاليه- وُلِد في 1924. تلقّى دروسه في فَضاء منطقته، ثمّ انتقل إلى بيروت حيث درس الفلسفة والَّلاهوت في "المعهد الشرقيّ".
A+   A-
1.غريغوار الإنسان
نخلةٌ عنقاء من لبنان جاوَرت العالميّة، عنَيتُ بها نخله حدّاد -إبن عين الرمّانه، قضاء عاليه- وُلِد في 1924. تلقّى دروسه في فَضاء منطقته، ثمّ انتقل إلى بيروت حيث درس الفلسفة والَّلاهوت في "المعهد الشرقيّ".
كان شغوفًا ب"الكلمة"، شاهِدًا له فِكرًا وقَولًا وفِعلًا، و"طائعًا -كمُعلِّمه- حتّى الموت، الموت على الصليب". اتَّصف ب"نقاء القلب"، وبال"وداعة وبِتواضع القلب"، كما بالبساطة في تعامله مع الآخَر، وبالشفّافيّة حتّى لَترى"صورة" الله فيه. إعتلَن"خادِمًا" لا مُتسلِّطًا، بارِعًا في "حمْل أثقال الغَير"، بَشيرًا بالقَول و"العمَل والحقّ". ترتسِم البَسمة على مُحَيّاه ولا تُفارِق ثَغْرَه، مُريحًا كلّ مَن التقاه. نفَسُه حُبَّوِيّ نابعٌ من الله-الحُبّ ! كان فَذًّا، حادَّ الذكاء، يَتَمَيَّز بفِكْرٍ مَنطِقيّ، وبِنَظْرةٍ ثاقِبَة واسْتِشرافيّة، وبِنَهجٍ عِلميّ في مُقارَبة الأمور. وهوَ ذُو شَخصيّةٍ مُتَعَدِّدَةِ الأبْعاد، فِعلًا وتَفْعِيلًا. كما تميَّز بعَيش "الشرِكة" مع الآخَر: التَفكير معَ سِواهُ والعمَل التشارُكيّ والتَعاوُنيّ والتَنْسِيقيّ، لِأنّ هذا النَهْج يَنْبَثِقُ من المَحبَّة ومن الإيثار، ومن الوَحْدَوِيّة في جَوهَرِها وفي مَنهَجيَّتِها. وقَد تَرجَم ذلكَ بِما خَطَّطَ لهُ ونَفَّذهُ على مدَى عُقود عِبر أعمالِ مَحبّةٍ ورَحمةٍ شَمِلَت "كَثيرِين" ولم تَسْتَثنِ أحَدًا.
المطران غريغوار أُسقُفٌ فَذٌّ، صاحِبُ رُؤْيَة ذات خَلفِيَّةً إنجيليّة عَميقة ولاَّهُوتِيّة تَحرُّريّة من جهة، وفَلسَفِيّةً واجتِماعيّةً ومُجتَمَعِيَّةً وعَمَلانِيّةً من جهةٍ أُخرى. مِن هُنا رِيادَتُهُ. انضمَّ إلى الكائنات على اختلافها لِيَضُمَّها إليه عِبْرَ كون فَسيحٍ يتَّسِعُ "لِكَثيرِين"، لأنّهُ "شاردانيُّ" الفلسفة.
تركَ بَصمَته في كلّ المجالات، بحَيث برَع في الرؤية "الرعائيّة" وتطبيقاتها الميدانيّة، كما في التنسيقيّات في مجال المسكونيّة والعلائق بين المُسلمين والمسيحيّين وفي فتح الحوار مع الَّلادينيّن والَّلاأَدريّين والمُلحدين. وقد نجح في حواراته مع الشباب وفي تأمين أنشطة لهُم مناطِقيًّا (أندية ودراسة بعد المدرسة). واستقطب الجامعيّين منهم الذين تطوّعوا في سِياق "الحركة الاجتماعيّة" أو في "واحة الرَّجاء" و"جامعة بلا حدود" أو في "تيّار المجتمع المَدَنيّ" وغَيرها من المِنصّات التي أطلقها حُرّةً لتَعمل باستقلاليّة.
يؤكِّد بقوّة: والأهَمّ اليَوم، هوَ دَورُ الأسقُف... في "قَلْبِ النُظُم والبُنْيات الاقتِصادِيّة والاجتِماعيّة" الظالِمَة لِصالحِ المُستَضعَفِين وغَير المُقتَدِرين من الناس!
هذا، وبيَّن أنّ الثَورات التي قامَت في مَطارح عِدَّة مِن الأرض إنَّما تَنظَّمَت "ضِدّ الكنيسةِ وأساقِفَتِها، أو على الأقَلّ بِدُونِهِم" ..."لِأنّ أكثرَهُم *كانوا غافِلِين عن إحقاقِ الحَقّ*، حاصِرِين هَمَّهُم بِالعِبادة وتَنظِيمها لِلاتِّصال بِالله... مُهمِلينَ خِدمَة الإنسان-ولا سِيَّما الضَعيفَ والصَغيرَ"- التي هيَ "خِدمَةُ الله" حَقًّا.
هل يَجُوزُ أن لا يَقْتَفي الأُسقفُ "الطريق" وهُوَ المَحْسُوبُ علَيهِ وَلَهُ؟
بكلمة: المطران غريعوار حدّاد "ظاهرة" لن تتكرَّر، لا في الكنيسة ولا في المجتمع.
2. رؤية غريغوار وعمله
يوم 13 تشرين الأوّل 1968 أعلن غريغوار رؤيته الفريدة: " كان لِزامًا على الأُسقُف في يوم تسلُّمِه رَسمِيّاً المسؤوليّة في أبرشيّته أن يقول كلمته لأبنائها ولِسائرِ المواطنين، أصدقائهم وأصدقائه". وبحَيث تكون "كلماتِ الأُسقُف .. بَدءَ حوار جديدٍ وتفاعُلٍ أوسع، بل تعهُّدًا والتزامًا علَنِيًّا، يَستطيعُ أن يُحاسِبَه علَيها مَن سمِعَها *وحَفِظها في قلبِه* وفي حَياته". ويُضيف: "لذلك، جَرُؤتُ أن أقِفَ هذا المَوقف وأقول هذِه الكلمات في مَعنى الأُسقف". في خاتمة "البَيان" توجَّه بالشُكر إلى مَن شاركه لقاءَ التَوْلِيَة من مَسؤولين رَسميِّين، ثُمّ صوَّب قائلًا: شكرًا لِـ"جَميعِ المُؤمِنين، المَسؤُولُون هُم أيضًا كُلٌّ على صَعِيدِه". لقَد ساوَى بَين الجَميع، وهو أمرٌ لم يَسبِقْهُ إليه أحد.
هل نطَق مطرانٌ قبله أو بعده بمِثل هذا الكلام أو بأخذ مواقِف جذريّة وتغيِيريّة؟
وبعد ثلاث سنوات من تولّيه رعاية الأبرشيّة، فاجأ الناس بتَقريرٍ حول ما مع شُركائه من العَلمانيّات والعَلمانيِّين في الأبرشيّة ومن خارجها، ممَّن تطوّعوا لمُشاركته في وَرشَة العَمل. قال: تطوُّرُ أبرشيّةٍ، (...) يجبُ أن لا يتمَّ إلَّا بِمَعرفتِهم ومُشارَكتِهم". وأضاف: "ولمَّا كانت صحّةُ الحوار والتفاعُل... والمُحاسَبَة، لا تستقيم إلَّا على أساسِ معرفةٍ شاملة لِما يَحدُث، ولماذا يحدُث، لذلك وجَدتُ من الضروريّ، أن أُبيِّن حقيقةَ هذه التطوُّرات وارتباطها بعضُها بِبَعضٍ، وأسبابَها ومُبرِّراتها". وقد تميَّز بإشراكه العلمانيّ(ة) في"التَفكير والتَقرير والتَنفيذ" مع المطران.
إذَن، قام المطران غريغوار بمأسَسة الأبرشيّة وإدارتها مجمعيًّا مُطوِّرًا المَفاهِيمَ والمُمارَسات لِتكُونَ إنجِيلِيّةً وتشارُكيّة. إلى أن حان زمنَ"تنَحِّيهِ طَوعًا" عن إدارتها مَنعًا لانقِسامٍ في كنيستنا كان يلوحُ في الأُفُق- نتيجةَ الصِراع "السُلطَويّ" من قِبَل البَطريَرك مكسيموس الخامس وقِسم من الإكليروس الذي اعترَض سبيلَه لِأَكثر من سببٍ غَريبٍ عَن الإنجيل . قامُوا بمُصارَعتِه حَسَدًا ونِكايَةً وتَسْيِيسًا في جانِبٍ كبيرٍ مِنهُ، لا لاهُوتِيًّا كما زعَمُوا زُورًا وبُهتانًا لِلنَيل من "ملاك" الأبرَشيّة. لم يجِد عليهِ الڤاتيكان مَمْسَكاً عقَدِيّاً، بل دعا البطريرك والسينودُس المَلَكيّ إلى تسويةٍ معه تحفظُ ماء وَجْهِهم، فلم يتراجعوا بل أصرّوا على تنحِيَتِه ظُلمًا، إلَّا أن نجمه يلمع أبدًاً.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium