في ظل قواعد الاشتباك القائمة على مواجهة العدوان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة في غزة والضفة، بات المشهد أكثر تعقيداً وأكثر إيلاماً رغم صمود وثبات المقاومة والشعب، يستمر العدو بارتكاب المجازر والجرائم وحرب الإبادة والتطهير العرقي حتى وبدون ذلك، بات مشهد الحصار والنزوح والجوع والمرض ضاغطاً وقاهراً وربما فوق طاقة البشر والمقاومين.
يقال بأن جرائم العدو بأشكالها وأوزانها المختلفة في فلسطين وخارجها هي جرائم موصوفة ومكتملة الأركان بشهادة العالم والمجتمع الدولي، والمقاومة رغم كل الظروف المعقدة والخطيرة تعمل وتقاتل بكل ما تملك من طاقات بشرية وإمكانيات وخاصة في قطاع غزة والضفة، لكنها بنفس الوقت تتعرض لأخطار وتحديات جسيمة بين المواجهة المباشرة والدفاع والتخفي وضرورات الرصد والإعداد وتوفير الإمكانيات للإيقاع بالعدو عبر العمليات الفدائية والكمائن والإغارات وعمليات القنص، وربما تضيق بها الأحوال تدريجياً إذا طال أمد العدوان وتعثرت فرص وقف إطلاق النار، في ظل استمرار الصمت أو التواطؤ الرسمي العربي والدولي.
هل تبقى المقاومة الفلسطينية بين خيارات الصمود والقتال رغم هول المجازر والدمار والمطاردة والملاحقة الصهيو- أمريكية، وبين إمكانية الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار بحدوده الدنيا رغم الشروط الصهيونية المدعومة أميركياً. نعم أخذت المقاومة قرارها بالصمود والقتال حتى آخر قطرة دم وآخر نفس في أجساد وصدور المقاومين، ورهانها الأول وليس الأخير على ثبات ودعم الشعب وحاضنتها الشعبية أولاً، أما رهانها الآخر فهو رئيسي واستراتيجي وعميق أيضاً، يستند إلى دول وأطراف وجبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق وإيران وسورية، ورغم كل ما تقدمه منذ بدء العدوان، ورغم تضحياتها العظام ومئات من الشهداء والجرحى، إلا أن منسوبها وإن كان قد طرأ عليه تطور ملحوظ لازال ضمن قواعد الاشتباك، أي أن الدور الحيوي الذي تقوم به جبهات الإسناد لازال مدروساً لاعتبارات داخلية أو محلية وإقليمية، وتحسباً لمخاطر الحرب الشاملة التي يتفق الجميع باستثناء قادة العدو الصهيوني على ضرورة تجنبها، وهذا ربما ما تم مراعاته عند اختيار طبيعة الردود التي تمت أو المتوقعة على الاغتيالات الأخيرة للأخ أبو العبد هنية والحاج فؤاد شكر القيادي في حزب الله، لذلك يحتاج المقاوم وحتى المفاوض الفلسطيني في مواجهة العدوان ومن أجل إيقافه إلى خيار نوعي من العيار الثقيل، وهذا يعتمد على جبهات الدعم والإسناد، التي بات ملحاً عليها النظر في استراتيجية الإسناد على ضوء العدوان الصهيوني الدموي الذي يستهدف الضفة وشمالها على وجه الخصوص، والتي تملك قدرات هائلة وتتمتع بعمق استراتيجي كبير، تستطيع من خلاله أن تقدم الكثير في مجال المناورة والمبادرة والتغيير في شكل وجوهر قواعد الاشتباك دون أن يؤدي ذلك إلى حرب إقليمية واسعة وشاملة.
مع بداية العدوان على قطاع غزة كان المطلب الفلسطيني وقف العدوان وإبرام صفقة تبادل للأسرى، إلا أن قيادة الكيان الصهيوني وخاصة المجرم نتنياهو وعصابته الفاشية العنصرية ذهبوا بأهدافهم إلى أبعد مدى؛ احتلال القطاع لفترة تطول أو تقصر، وطرد الفلسطينيين، واجتثاث المقاومة، وتحرير الأسرى الصهاينة، وإخضاع قطاع غزة للسيطرة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، ولو تطلب الأمر الذهاب إلى حرب شاملة.
وتستمر المفاوضات لعقد صفقة تبادل ووقف العدوان منذ أشهر، ورغم إنجاز صفقة تبادل محدودة قبل ستة أشهر تقريباً إلا أن المفاوضات لإتمام صفقة جديدة ما زالت متعثرة، مع العلم أن شروطها قد اختلفت عن السابق، فالشروط الفلسطينية هي الانسحاب الإسرائيلي من كل قطاع غزة بما فيها محور فيلادلفيا ومعبر رفح ومحور نيتساريم، وعودة النازحين بدون شروط، وإجراء عملية تبادل للأسرى بدون فيتو إسرائيلي على أي اسم من الأسرى الفلسطينيين أو على أي مكان يريدون الخروج إليه، إضافة إلى ذلك إدخال المساعدات الإغاثية بكميات كبيرة ومضاعفة، وفتح المعابر، ورفع الحصار، مع توفير ضمانات دولية للشروع بإعادة الإعمار.
أما الشروط الإسرائيلية فهي إبقاء الإشراف والسيطرة الأمنية والعسكرية على القطاع، وإبقاء نقاط ومواقع عسكرية في محور نتساريم وفيلادلفيا، والتدقيق والتفيش للنازحين العائدين إلى بيوتهم ومناطق سكنهم، وتحرير الأسرى الصهاينة، وفرض الفيتو على بعض الأسرى الفلسطينيين وبعض الأماكن التي سيخرجون إليها، ورفض أي التزام بوقف العدوان أو وقف إطلاق النار.
تقف دول الغرب الإمبريالي والناتو بزعامة أميركا خلف حكومة الكيان الصهيوني تحت ذريعة من "إسرائيل" بالدفاع عن النفس، علماً أنهم يحشدون قواتهم وأساطيلهم وقواعدهم في المنطقة والبحار والمحيطات للدفاع عنها باعتبارها تمثل مشروعاً استعمارياً ومستعمرة إمبريالية استراتيجية في قلب المنطقة، يجب حمايته والدفاع عنه وجعله متفوقاً على كل دول المنطقة والإقليم، لذلك بعض التباينات التكتيكية بينهم لن تؤثر على الموقف الاستراتيجي والمكانة الاستراتيجية للكيان الصهيوني. على هذه القاعدة يرفض نتنياهو المقترحات التي يقدمها شريكه الأميركي، وتلك التي يقدمها الوسطاء في مصر وقطر...، ويذهب إلى أبعد من ذلك إلى الاغتيالات في الداخل والخارج، ويذهب إلى فتح معركة الضفة الغربية، وخاصة مدن ومخيمات وقرى شمال الضفة بأهداف السيطرة على الأرض على طريق الضم، وتفكيك بنى المقاومة، وتعزيز السيطرة الأمنية والعسكرية الصهيونية الكاملة على أعين قادة وقوات السلطة الفلسطينية، أي أن الإسرائيلي يتصرف اليوم وبعد أحد عشر شهراً من العدوان وكأن المبادرة بيده، وهي لازالت كذلك، الأمر الذي يتطلب تغييراً نوعياً في قواعد الاشتباك يضمن حماية المقاومة وحاضنتها الشعبية.