جاء في مقالتي السابقة: "الذي يُحبّ نفسَه يعمل على ذاته، مُطوِّرًا ما لدّيه من ملِكاتٍ وقدُرات ووَزنات. مُمتَنًّا لله وناشِطًا عبر رؤيةٍ واضحةٍ لتَحقيق ذاته وداعِمًا لِأشباهه"[ ايلي قنبر، حبّ الذات والإيثار، النهار، 01 أيلول 2024]. بانيًا "عالمًا يقوم على ِصَليبِ يَسوعَ ٱلمَسيحِ، ذ*ٱلَّذي بِهِ صُلِبَ ٱلعالَمُ لي وَأَنا صُلِبتُ لِلعالَم* وبِه أَفتَخِر. عالمٌ قائمٌ على الحبّ إلى أقصى مَدَيات الحبّ، حبّ بِلَا حُدود، حبّ بِلَا شُروط. حبّ حتّى إخلاء الذات، حبٌّ باذِل *حتّى الموت، الموت على الصليب*[ فيلبّي 2: 8] إفتِداءً للأحبّة، لِ*كلّ إنسان، وكلّ الإنسان*"[ ايلي قنبر، الخليقة الجديدة، النهار، 08 أيلول 2024].
اليوم نتعامل مع قَولٍ ليسوع الناصريّ وكـأنّه مُناقضٌ لِما جاء في المقالة السابقة: "مَن أَرادَ أَن يُخَلِّصَ نَفسَهُ يُهلِكُها ". لِمَ؟
لدَينا في الأمثال الشعبيّة اللبنانيّة ما يُفيدنا. أوّلًا مثَل شعبيّ يقول:"من بعد حماري ما ينبُت حشيش". وآخَر:"بقرتنا بتِحلُب، وبالاخِر بتلبُط كلّ اللي حلبتو". بالإضافة إلى"أنا أو لا أحَد"[ كان عنوان لمُسلسَل مكسيكيّ عُرِض في لبنان قبل عُقود]. وهناك شِعارٌ رُفع في الولايات المتّحدة قبل سنوات مُفاده: "أميركا أوّلًا" ـ تلاه تعميمٌ له وصلّ إلى عددٍ من الدوَل التي تدور في فلًكها، ومنها بلدنا حيث قيل"لبنان أوّلًا". ومنذ عقود رُفع شعار متَّصِل بالمُناخ: "نحن كلُّنا في مركبٍ واحد، فإن تعرّض للغرَق هلَكنا جميعًا". هل فهِمنا الآن ماذا يعني " مَن أَرادَ أَن يُخَلِّصَ نَفسَهُ يُهلِكُها "؟
أمّا إنكار الذات، حسبَما جاء على لسان الناصريّ، فالمقصود منه أن أُخلي ذاتي[ فيلپِّي 2: 7] كما فعَل يسوع، أي أن أَخرُج لمُلاقاة الناس في "حرَكة" بذل الذات في سبيلِهم، بدلَا من الانطواء على السُرَّة والتنكُّر لمُعاناة الآخَرين. بهذا المعنى صرّح المطران غريغوار حدّاد: "لا يُعتَدّ كَسبًا إذا ربح شخصٌ العالم، هذا العالم الزمنيّ، وأن يَضيع، وأن يُضيع أناه الروحيّة والملكوت الروحيّ. بل بالأحرى هي الخسارة الأكبر له، لأن ليس مسموحًا لشخصٍ أن يخسَر العالم، وأن يَكرَهه، وأن يُضيع خيطًا من خيوط هذا العالم، ليربَح نفسه. ليس مسموحًا أن يربَح نفسَه دون أن يهتمّ لِلعالم. ذلك أنّ هذا الشخص أُرسِل إلى هذا العالم ليَربَحه[ يوحنّا 3: 17]، ليُخلِّصه"[ آفاق 24: 1991، ص 20]. من هنا ضرورة تمييز الاختلاف الرئيس بين الأنانيّة وحبّ الذات[ راجع: ايلي قنبر، حبّ الذات والإيثار، النهار، 01 ايلول 2024]، إذ الأولى تتحقَّق بتَجاهُل الآخَرين وتجاوُزهم، في حين أن الثاني يعني الاعتراف بالآخَرين والعمَل معهم ولآجلِهم.
هذا، وتجدر الإشارة أنّ يسوعُ لم يكُن يعلم أنّه سيَقضي صلبًا، ولَو أنّه كشَف تآمُر رؤساء اليَهود ضدّه. عُرِفت "الخشبة"[ ثيل:"ملعونٌ كلُّ مَن عُلِّق على حشية"- غلاطية 3: 13؛ تثنية الاشتراع 21: 23] بالصليب بعد تنفيذ حُكم إعدام يسوع عليه، اي بعد موته وقيامته، وصارت علامة فارقة لِأتباع يسوع.
في الحياة، هناك مُعادَلة الربح والخسارة التي نتَعرّض لها يَوميًّا. بِها تَنتعِش آمال، وبها قد نُصاب أيضًا بخَيبات، تِبعًا للحسابات التي نقوم بها. لكن ثمّة أُمور لا يُمكن تَعويضها في ما لو خسرناها: كسُقوط الفرد أو المجتمع أخلاقيًّا أو قيَميًّا؛ أو فقدان الإيمان بالله أو خسارة الثقة بالنفس أو بالآخرين... نعم، "خسارة القيَم لا يُمكن لمُعادلات دَفتريّة أن تَحلّها، وتُعوِّض نَقصها، ومثلما قال المسيح عليه السلام: "لا فائدة تُرجى إن كسبتَ العالم، وخسِرت نفسَك"[ ناصر الظاهري، الخسارة ... خسارة الروح، 04. 10. 2023]!
وَعيُ الذات أمرٌ أساس "لحمْل الصليب" وليس للموت عليه، إذ يُشكِّل المرحلة الأولى من حبّ الذات حيث يُدرِك المرء تمامًا أفكاره ومشاعره وسلوكياته، وبالتالي يكون خيارً حمل الصليب قرارًا شخصيًّا، أي حُرًّا[ "إن الآب يحبني لأني أبذل نفسي لأنالها ثانية ما من أحد ينتزعها مني بل إنني أبذلها برضاي"] وإراديًّا (يوحنّا 10: 18) ويَوميًّا (لوقا 9: 23).
"مَن أَهلَكَ نَفسَهُ مِن أَجلي وَمِن أَجلِ ٱلإِنجيلِ فَذاكَ يُخَلِّصُها". هنا مُعادَلة الربح جليّة: الإنجيل، البُشرى السارّة للناس هو مصدر "حياة وافرة" (يوحنّا 10:10)، لأنّها متَّصلة بِنَبع الحياة وبالقيَم التي نتبنّاها ونعمل بمُوجبها: "إن كان احدٌ يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي، وإن كان احدٌ يخدمني يُكرمه الآب" (يوحنّا 12: 26). مَن أعطى ذاته من أجل يسوع ومن أجل الإنجيل يكون رابح-رابح مع أخواته وإخوته: ربحي تثبته هذه الشهادة لبولُس الطرسوسيّ: "إِنّي مَصلوبٌ مَعَ ٱلمَسيحِ، وَأَنا حَيٌّ، لا أَنا بَعدُ، بَل إِنَّما ٱلمَسيحُ حَيٌّ فِيَّ. وَما أَحياهُ ٱلآنَ في ٱلجَسَدِ إِنَّما أَحياهُ في ٱلإيمانِ بِٱبنِ ٱللهِ، ٱلَّذي أَحَبَّني وَبَذَلَ نَفسَهُ عَنّي" (علاطية2: 18-20).
نعم، يجعلك حبّ الذات أكثرَ راحةَ وانسجامًا مع الغَير، ويُنبّهك إلى قيمتك عند الآخَرين.
فماذا تَنتظر لتبدأ رحلتك نحو حبّ ذاتك؟