"أين الشعب؟"، سؤال يتبادر في كل فرصة يمتنع فيها مجتمعنا عن التأثير على مجرى الأمور. فما الذي يحول دون ممارسة مجتمع "تتعاطاه السياسة" في كل مجالات حياته عن تعاطي السياسة بشكل فاعل؟ عوضًا عن الاكتفاء بأجوبة تبسيطية من نوع "الشعب اللبناني هيك، بيحكي حكي مش أكثر"، لنستعرض ثلاثة عوامل تضع الفرد والمجتمع في خانة المفعول به: الطبيعة البشرية، والمشروع الرأسمالي والنيوليبرالي، والنظام الطائفي-الزعاماتي اللبناني.
الميل البشري للنأي بالنفس عن أخذ القرار
لا يميل العقل البشري للتغيير بل للاستقرار. وهذا يشكّل عائقاً أمام لعب المرء دوراً سياسياً تغييرياً. على سبيل المثال، على من يعتمدون مسار تغييري في لبنان تحديد الهدف: إصلاح الموجود أم فرض انتقال للسلطة؟ ثم تحديد كيفية الوصول له: فرض انتقال مسلّح أو سلمي؟ ثم الإجابة عن جملة من الأسئلة: ماذا عن سلاح حزب الله، وعن العلاقة بالنظام السوري، وعن مواجهة مصالح الزعماء والمستفيدين منهم؟ فيصبح من الأسهل والأكثر أماناً أن نتجنب "وجعة الرأس" فننأى بأنفسنا عن المبادرة ونكتفي بانتقاد الوضع، أي نستسلم لدور المفعول به.
وتلعب المتخيلات المجتمعية دورًا محافظًا. هي معتقدات ارتضاها المجتمع، غالبًا عن غير دراية، فأصبحت مسلّمات تصوغ تفكيرنا ومواقفنا وعلاقاتنا، وباتت تشكّل جزءًا من هيمنة السلطة الثقافية. ولأنها تقدّم شرحًا للواقع، تبعث شعورًا بالثبات وبالتالي بالطمأنينة، فتحمينا من قلق المجهول أو غير المفهوم، وتشكّل مساحة من الراحة الذهنية يصعب علينا الخروج منها. ومن هذه المتخيّلات الاعتقاد أن "لبنان طول عمره هيك"، "أصلًا القرار خارجي"، "حزب الله هم الغالبون"، "ما بينعسوا الحراس"، أو "الليرة بخير". بكلمات أخرى: "لا تقلق، لا داعي للمخاطرة بالتغيير".
الرأسمالية والنيولبرالية: مشروعان سياسيان مصمّمان لفصل الفرد عن القرار
تضع "الديمقراطية" الرأسمالية العمل والإنتاج (أي معظم حياتنا!) خارج الأطر السياسية التي تعرضها، كالانتخابات والحكومة، فنعتاد عدم التحكم في "الاقتصاد الحر". كما أن إتاحتها لتكديس الثروات تحصر المقدرات الإعلامية والتنظيمية في يد بعض الرأسماليين تحدّ من إمكانية المجتمع التحكم بمصيره. فأية "ديمقراطية" في فرنسا حين يمتلك بعض الملياردارات 90% من الإعلام، أو الولايات المتحدة حيث تدعم شركات السلاح والأدوية واللوبي الصهيوني غالبية المرشحين؟ كما أن القلق المعيشي المتجذر في الرأسمالية، وداء الكآبة الذي ينتج عنه، يحدّان من قدرة المرء على تحمّل مسؤولية لعب دور سياسي فاعل.
في هذا السياق، تستشرس النيوليبرالية بتقليص دور الدولة فتفرض هيمنة مناهضة للتغيير وللانتظام السياسي ("السياسة والأحزاب فاسدة")، وتروّج لنوع شكلي من العمل السياسي كالاكتفاء بالاقتراع. وتعمل على تقويض دور النقابات السياسي واستبداله بمنطق فئوي-تكنوقراطي: لن أنسى ردة فعل ممثل أحد الأحزاب "اليسارية" حين دعيت مسؤولي قطاعات عمالية لاعتماد خيارات تحمي مصالح عمّالها فقاطعني صارخًا: "مش شغلة النقابات تشتغل سياسة!".
كما تعمل النيوليبرالية على إفراغ الخيارات من جوهرها السياسي من خلال توكيل القرار لـ"أخصّائيين"، تارةً بمنطق "حكومة تكنوقراط" وطورًا باستضافة واستشارة "خبراء" على شاشات التلفاز. هذا ما يحفّز غالبية المواطنين "اللا-أخصائيين" على النأي بالنفس، وهي صيغة متطوّرة لمنطق "ما تفكّر/ي، نحن الأخصائيين منفكّر عنك". كما أن معالجة المنظمات غير الحكومية (المموّلة عادةً من دول… تحمل راية عدم تدخّل الدولة!) لمشاكل المجتمع تساهم في إخفاء الحاجة لمشروع سياسي متكامل يعالج جذور المشاكل، وتصادر حق المواطنين في تقرير كيفية إدارة شؤونهم إذ تضع الخيارات في يد المموّلين.
النظام الطائفي، نظام قائم على توكيل القرار للزعيم
لا يشير "النظام الطائفي" إلى دساتير وقوانين (لم يقرأها أحد أصلًا)، ولا إلى مشكلة أخلاقية متمثلة بكره أبناء الدين الآخر، بل لعلاقات مجتمعية يمكن وصفها بالقبلية، بحيث "تطوف" مجموعة من البشر يتشاركون هوية معيّنة حول زعيم القبيلة، ويوكلون بالتالي القرار (وهمّه) له. وهذا ما يساهم في حصر تعاطينا السياسي بالمشاهدة، فنحن "لسنا بزعماء"، فـ"شو طالع بإيدنا". وهكذا نكتفي بلعب دور اعتراضي، غالبًا من خلال مطالبة الزعيم، وذلك تسليم الفعل السياسي له. وهذا ما يفسّر لجوء عدد كبير من اللبنانيين إلى الشارع عام 2019، ليعودوا بعدها إلى حضن الطائفة وحماية الزعيم القادر على تأمين قسط الجامعة لأولادنا ودخول المستشفى لأهالينا وربما وظيفةً ما لمن لم يهاجروا بعد.
لا ينحصر هذا النموذج القبلي بالأحزاب الطائفية، فالأحزاب العلمانية أيضًا بات الانتساب لها انتماءً عقائديًا-هوياتيًا لمجموعة "تشبهنا" عوض أن يكون منطلقًا لتنظيم عمل سياسي. كما يتكرر منطق التوكيل في الأوساط "المعارضة" من خلال عبارات مثل "مشكلة شربل نحاس أنه ما عنده كاريزما" (أي: لا يصلح زعيمًا) أو "حركة مواطنون ومواطنات تمثّلني" (أي: قررت توكيل القرار لها لا لغيرها) أو "لازم تعملوا كذا" (أي: فوّضتكم الدور فأطالبكم بحسن أدائه)، بدل الاستجابة للدعوة للانتقال من دور المفعول بهم إلى دور الفاعلين. وهذا ما يفسّر غياب مئات الآلاف ممّن صوّتوا "للتغيير" عن المشهد السياسي اليوم: أوكلوا القرار لنوّابهم (أي: لمن "ينوب عنهم")، فمنهم من يئس من النتيجة ومنهم من ينتظر الانتخابات المقبلة ليعيد كرّة التوكيل.
يحول استغلال الرأسمالية والنيوليبيرلية والنظام الطائفي-الزعاماتي اللبناني للطبيعة البشرية دون ممارسة المجتمع دورًا سياسيًا فاعلًا. لكن التغيير ليس مستحيلًا. فالحالات التاريخية التي تتعطّل فيها قدرة الموكَل إليهم بالقيام بدورهم وبالردّ على قلق الموكِلين (وهي الحالات التي يمكن وصفها بالأزمات) تشكّل فرصة، بحيث يستشعر الدماغ أن كلفة المخاطرة بالتغيير باتت أقل من كلفة البقاء في منطقة الخطر، فيبحث عن بديل. كان يمكن لأزمة الـ2019 أن تكون فرصة، لكن البديل كان أضعف من أن يفرض نفسه فتمكّن الموكل إليهم من إدارة الأزمة. لكن التاريخ لم ينتهِ، والنظام سيتعطّل مجدّدًا. فهل ستكون الأزمة المقبلة فرصة لفرض البديل؟ بكلمات أخرى -وكي لا ينأى القرّاء بأنفسهم من مسؤولية التأثير- هل نشارك في تجهيز البديل حتى نتمكّن من فرضه عند الأزمة المقبلة؟