النهار

"جموكي" الجميلة يا"بروكا" رحلت
المصدر: النهار - إبراهيم سمو - المانيا
"جموكي" الجميلة يا"بروكا" رحلت
فتحت عيوني على وجهٍ شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية
A+   A-
فتحت عيوني على وجهٍ شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.
كلّ شيء في هذي الـ"جميلة": طِيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبّها لمن حولها، ترفّعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلاً لا يقود سوى إلى مآثر إنسانية حميدة.
جميلتنا جميلة؛ أعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء، لكن مآثرها تبقى حاضرة، تشهد لها، تدلّل على خصالها، على عدم تمكّن ابن/بنت أنثى على استدراجها، ولو للحظة حال حياتها، إلى دسيسة أو غمز أو كيد، بل لطالما شوهدت تترفّع عن الثرثرة والاغتياب، وتلوذ من كلّ ذلك بصمت أبلغ من كلام، حيال كلّ هراء أو حشو أو خطل أو باطل.
يا الله! كم ضُبطت تفكّ أن حوصرت ضيقَها، بـ"ندخل على الله"، وترفع بصرها متضرّعة إلى السماء، ثم تنفض طرف كتّان رأسها، وتكرّر مثقلة بإيماءات صارمة أدهى من أيّ قول: "ندخل على الله".
بذا، كانت تواجه جموكي الوشاة وأهل اللمز من الرجال والنساء، وتفشل كلّ ماء معكَّرة.
الحياة صقلتها كي تكون على هذا النحو حاسمة، إن استجرت إلى مكاشفة أو بوح أو رأي.
هدوؤها الخلاب، يا كم اجتذبنا، و...كم تواترنا على تدليلها بـ"جموكي"!
شهادتي... قد تكون طعينة من باب أنها جدّتي لأمي، ومرجّح أن أكون مندفعاً بشيء من هوى، أو مثقلاً بميل أو عاطفة أو تحيّز، لكن مقرَّبي هذه الوقورة يعلمون أن الكلام لم يُدَسَّم هنا إلا بأقلّ الحقيقة.
جموكي...
للاسم حكاية ومعطيات، ولكلّ معطى وقعه الأثير؛ فبينما السجلات الرسمية عرّفتها بـ"جميلة"، وانبرى مجتمعها يجمّلها بـ"جمو"، دلّلناها نحن حفداؤها بـ"جموكي".
من جمائل جموكي مبادرة تصغيري بـ"بروكا"، ومن مظاهر نكران جميلها، عدم احتفاظي بما أحبّته لي من لقب جميل.
أزعم: أنا أوّل من تودّد إليها بـ"جموكي"، ثم درج من درج من إخوتي وأولاد خؤولتي على اللقب، حتى استشرى بين العائلة ومقرّبيها كما نار في هشيم. 
هي بقيت جموكي، وأنا تخلّيت، مدفوعاً بشمخرة موهومة أو مثقلاً باختبال ما عن لقب ما يزال له طنينه المشوق على عمقي الباطن.
اغتبط عمري، منذ طفولتي الأولى، بمزية خاصّة ومعزة أكثر خصوصية، انسكبتا عن قلبها الشفيق، و... درجت، هكذا دواليك، المعاملة عينها على سائر إخوتي.
يحضرني...
"بوسطة شفو" تقف قرب منزلنا، فتنزل جموكي وتطبع وجناتنا بقبلات رهيفة، ثمّ تفرحنا، ما أن تتعافى من عجرفة الطريق، بهدايا قيّمة و"خرجيّة جيب" وحكايات طريفة.
أبصرتها ذات مرة تجرجر، وأنا "كفرخ أوز"، أوزات وأفرخاً من قلب الحافلة، وأدهشتني: هذه لبروكا. ياما تأففت من البوسطة الكسيحة، ونوافذها الخليعة والأعطال والغبار وثرثرة "المعاون".
مشهدها تنتصر حيال متنمّرين من قريتها لي، لا يفوتني...
أذنك طويلة.
ـ أذني أنا! قبضت أعوي مثل ابن آوى على الصيوان وشحمته بكلّ أصابعي. فأذهلوني: لا، لا، الأذن الأخرى. ثارت ثائرة جموكي ما أن سمعت وعوعتي وبعثرتهم: يا(...).
لا تفوتني جارتها زهو الأرمنية، امرأة جرجيس بن حلوج، تتعقبنا: جمو، من هذا الولد جمو؟ فتردّ جموكي بشيء من مباهاة: بروكا... هذا حفيدي بروكا!
ـ يا "عيسى النوراني". تردّ الجارة بكرمانجية فصيحة، وتمطر خدّي من لطفها بقبلات ودودة!
وتتداعى صورة جموكي تقدّمني إلى "زينو"؛ صديقة عمرها وأرملة حميها خالد: زينو قبّليه، هذا حفيد كلينا بروكا. فأخاف من العضّ وأفرّ.
أذكرها تجرجرني جرّاء ممانعتي وفرط خجلي إلى بيت أهلها، فتصرّ "مَنْسي" أمّها على أن تذبح دجاجة كرمى للزائر الخجول؛ بركا.
تعبرني: تحملتني على ظهرها إلى بيت "الشيخ حسن عفدال"، لتمسد ابنته "زّهْريهْ" باسم "الأُوجاغ"، صداع جبهتي والصّدغين، أو تبرِّك رأسي بالـ"الكُولِّك" المقدس ومائه.
أذكرها تقنعني، كي أرافقها إلى بيت" پیر عَمَّر"في قرية "مَرْكب"، فأوافق وتتأبّطني على عجل، فأعارض ما أن نخلي القرية، فتغريني بدكّان "أحمد حمو" على الطريق، فيسكت الطفل ونواصل، و... يحتفى هناك عند البيّرة بجموكي، وربما بي أنا بروكا.
تبرّ جموكي، وإن نسيتُ، بوعودها، فتعوّضني بـ "كازوزة "من "دكّنجي" قريتها "برهون"، أو بعلوك وسكاكر إن بدا المشروب من ملمسه دافئاً.
أذكر: تعرض على سليمان، خالي، أن يهديني ساعة يده عند تخرّجي في الابتدائية، فيفعل.
أما عنها وأختي (ه) فتلك حكاية أخرى...
تحضر الجدة تحتضن اللفة وتناغي: "بست بست بست". فتتهلّل أسارير المولود، فتتفاءل جموكي: يا الله على الوجه الباش. تهزهز الصرّة، وتتمتم: الأطباء بشر وقد يزلّون مثلنا. ثمّ تعرض، متجاسرة على نفسها: هل تسمحون لي بها؟ تعتبر سكوت والدي رضى، وتمضي في اليوم التالي بـ"القماط "إلى بيتها، ثمّ لا تعود إلا بعد سنوات من سهر ورعاية وتربية: هاكم!...هذه أمانتكم.
رحلة المرأة الثمانينية إلى ألمانيا تعادل في تشويقها مغامرات سندباد وعلي بابا.
تختلط عند مداخل ومخارج ومطارات كلّ من تركيا واليونان والدنمارك سلاسة الأحول بالمجازفة أو تفترق، ويبرع سردها؛ فتخبرك كيف أفلحت بمعرفة مهرب في مخاتلة الجندرما التركية؛ كيف تسلّلت متدلّية على عصاها حدود "سرخت "المصطنعة؛ كيف ودّعت بعبرات أرض بنخت.
جموكي لا تغفل، وهي تخبر، عن أن تثني على همّة شباب في قافلة فرّها، آزروا حفيدها سعيد في شؤونها مفاكهين: عجوز نحن كذلك أولادك.
تخطر من تجربتها الشخصية عن مراوغات المهرّبين وفخاخهم، عن جوازات سفر ملفقة، عن محاولات إقلاع أو عبور خلّبيّة، وعن ابتزاز يسبقه وعود معسولة.
تضحك ملء رئتها عندما تصف همسها من المطار، من هويتفها الخاصّ لأذن حفيدها: "سعيدو الكلب كذب". وتضرب كفاً بكفّ.
ها جموكي ذي تعود إلى قريتها "دوكري"، أو كما اعتادت على أن تسمّيها "دوكركي"
تنضم إلى أهلها الراقدين هناك على التلّة الغربية، قرب "طاحونة جرجيس"، وتغتبط.
لكن... كأني بها تعاتبنا: لو هذه رفات أحدكم، هل كنت أتوانى عن مرافقتكم؟

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium