النهار

إنفلات عِقال مُسوخ "بشَريّة"
المصدر: النهار - الاب ايلي قنبر
إنفلات عِقال مُسوخ "بشَريّة"
في ظل استمرار هذا التدهور الاقتصادي والاجتماعي، تقول دراسة "يُتوقَّع أن يشهَد لبنان تصاعداً في النزاعات العائليّة والشخصيّة
A+   A-
ما يشهده العالم اليوم من عنفٍ مُتبادَل غير مسبوق ولا سيّما في لبنان يجعلنا نتساءل: لِمَ تحوَّل بعض الناس إلى وحوشٍ كاسرة، لا بل إلى مُسوخٍ لا تُتقِن سِوى القتل والتدمير والأذى بأشكالٍ لا تَخطُر على بال، كما جرَى يومَي[ من خلال تفخيخ "الپِيْجِرز" وأجهزة الاتّصال الَّلاسِلكيّ. ] 17و18 أيلول 2024؟ نَذكُر، بالطَبع، ما حدَث إثْر اختراع الـ"تي. أنْ. تي" للاستعمال السِلميّ وتَحوِيله من قِبَل مُجرِمين إلى مادّةٍ قاتلة لاحقًا؟ وكيف "نستعمل" الدِّين لأغراضٍ عُنفيّة: القرون الوُسطى للمسيحيّة خَير شاهِد. كذلك حين سُئل المطران غريغوار حدّاد عن رأيه بالسيِّد حسن نصرُالله، أجاب: "أراه مُتقدّماً على غيره في المجال الإنسانيّ. لكنّ الخطر [ مادونا سمعان، غريغوار حدّاد ... مطران الفقراء وبابا العلمانية الذي يشهد بأن "لا إله إلَّا الله"، السفير، 04. 01. 2009.]الكبير يَكمُن في خَلطِه بين الدِّين والسياسة، لا سيّما أنّه يَنتهِج نوع التديُّن التَقليديّ الذي يُعيد إلى الوَراء بدَلًا من التقدُّم إلى الأمام".
لقد صدَق بولس الرسول حين انتَهَر الغلاطيِّين:"فإذا كنتُم تَنهَشون وتأكُلون بعضُكم بعضًا، فانظُروا لئلَّا تُفنُوا بعضُكم بعضًا"(غلاطية 5: 15).
هناك ما هو أفظع أيضًا، عنَيت به مفهوم "الـبانُوبْتِيكون"[ Panopticon. ] الذي صاغه الفيلسوف الإنكليزي جيريمي بِنثام، كأساس لِفكرة السِجن، مُريدًا هندسة الإرادة والعقل والجسد من خلال العلاقة بين الرقابة والمُعاقبة. علامَ يقوم مفهوم الـ«بانوبتيكون» (أو المُشتَمِل[ بيروت حمّود، عملية «النداء القاتل»: إسرائيل ترتقي بنموذج الـ «بانوبتيكون»، السبت 21 ايلول 2024.] بالعربيّة)؟ نتحدّث عن "بناءٍ هندَسيّ حقيقيّ لسِجن مُحصَّن، يتوسَّطه بُرج مُراقبة يضُمّ سجّانًا بإمكانه مُراقبة جميع المُعتقَلين، من دُون أن يتَمكَّن هؤلاء من رُؤيَتِه، مع اعتِقادهم الدائم بوُجودِه في البُرج حتّى لو لَم يكُن مَوجودًا. هذه القوّة غَير المَرئيّة (السَجّان، أو كاميرات المُراقبة) تَسلبُهم إرادتَهم عبر إخضاع عُقولهم وضَبط أجسادِهم من خِلال إشعارِهم بأنّهم مُراقَبون على الدوام. وبالتالي تَغدو الأجساد الأسِيرة فاقِدَةً لِلقُدرة على الإنتاج الماديّ وتتَحوَّل إلى كائناتٍ خاضِعة، تَنمو في داخِلها رَقابَة ذاتيّة، وتُسيطِر على عُقولهم حالةٌ من الخَوف المُتواصِل"، الذي هو نتيجة مباشرة لتكثيف الـ«بانوبتيكون». لقد "خلقت العملية حالة من الشعور بالانكشاف أو ما يُشبه «العُرِي الجَماعيّ»، وكأنّ [ هنا هي إسرائيل.] القوّة غير المَرئيّة التي تسبَّبت في كلّ ذلك، من خلال التحكُّم بآليّة الاتّصال المُحصَّنة، بتَحويلها إلى آليّة مُراقبة مُخترَقة ومن ثمّ سلاحٍ قاتل، قادرة على التحكُّم بأجساد اللبنانيِّين، ليس من خلال مُراقبتهم فحَسب، بل من خِلال قَتلهم بالمُراقبة، وبالتالي إخضاعِهم إلى أقصى حدّ"[ المرجع السابق.]. لا بل ذهَب حيريمي بِنثام أبعَد في أفكاره، إذ انتقد الدين المنظَّم، "ووضَع خُططًا لإلغاء الكنيسة الأنجليكانيّة، وسَخِر من المسيحيّة التاريخيّة، خِدمةً لآرائه وأهدافه السياسيّة ... سَعيًا لِبناء مجتمع عَلمانيّ نَفعيّ[ محمود عبد الهادي، أخطر فلاسفة عصر التنوير، 21. 08. 2023.] بالكامل وبِشكلٍ صارِم". بينَما قال أحد الحُكماء: "أن تعُضّ لِسانَك خَير من أن تعُض الآخَرين".
وفي ظل استمرار هذا التدهور الاقتصادي والاجتماعي، تقول دراسة "يُتوقَّع أن يشهَد لبنان تصاعداً في النزاعات العائليّة والشخصيّة[ جنان الخطيب، جرائم متكرّرة تهزّ الرأي العام في لبنان: أنماط جنائيَة أو حوادث متفرّقة؟، الأخبار، السبت 21 أيلول 2024.
]، ما يُسهم في زيادة جرائم القتل والانتحار. هذه النزاعات، التي قد تبدأ من مشكلات بسيطة، يُمكن أن تتحوَّل إلى أعمال عُنف مُميتة بسبَب الضغط النفسيّ الذي يُعاني مِنه الأفراد، إضافة إلى عدَم وجُود قنَوات فعّالة لحلّ الخلافات بطريقةٍ سِلميّة".
إذَن، لم يَصدُق "هُوبْز" حين قال "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، لأنّ ما نفعلُه بعضنا ببَعضٍ أسوأ بِما لا يُقاس من فِعلة الذئب بالذئب. نعم، لا نجِد حيَوانًا يَعتَدي على حَيَوانٍ آخَر طمعًا بمُلكيَّتِه ولا لُؤمًا ولا انتِقامًا كما يفعَل بعض الناس الذين يتَخطّون حدود تبرير أفعالِهم الجُرميّة. جُلَّ ما يفعله الحيَوان هو الاصطياد للأكل أو الدفاع عن صِغاره. ونَصمُه بالمُفترِس! في حين نُفظِّع نحن بالحَيوانات لمُجرَّد التفظيع[ حادثة "التفنُّن" بقَتل ذئب قبل فترة مع صوَر عبر السوشِيل مِيديَا "إفتخارًا".]، سادِيًّا، أو لبَيع العاج خاصّتها أو فَروِها ... إليكم ما رَواه "مُرسَل حَول تَيسَيَ ماعز تقابلَا على ممَرّ جبَلي ضيِّق. وكان من جهة وادٍ سحيق ومن الجهة الأخرى رُؤوس صُخور مُسنَّنة قاتلة. ولم يَستطِع التيسَان أن يتَراجعا دُون التعرُّض لِلسُقوط. ماذا اختارَا؟ بَدل التعارُك لانتِزاع حقّ المُرور، انحَنى أحدُ التَيسَين وتمدَّد قدْر المُستطاع، فيما التَيس الآخَر عبَر من فَوقِه، ثمّ تابَع كلاهُما طريقَه بأمَان". هلَّا اعتَبر بعض الناس؟
على مقلَب آخَر، نَقرأ: "مَن يَزرَع بِٱلبَرَكاتِ فَبِٱلبَرَكاتِ أَيضًا يَحصِد". ما هي البرَكة؟ جاء في قاموس المعاني أنّ "البركة (هي) ثُبوت الخَير في الشيء. وتُطلَق على النَماء والزيادة والسعادة". لا بل هي إقرار بالخير والسعادة لِشخص آخَر، وهي "أيضاً الحالة التي تُحقِّق هذا الكلام الطيِّب"، فَـ"تَفيضونَ (إذ ذاك) في كُلِّ عَمَلٍ صالِح"(2 قورنتُس 9:9): "فلمّا فعلوا ذلك (تَقَدَّم إِلى ٱلعُرضِ) حازوا من السمك شيئًا كثيرًا، فأخذَت شبكتُهم تتَخرَّق. فأشاروا إلى شُركائهم في السفينة الأُخرى أن يأتوا لِنجدتِهم. فأتَوا ومَلأوا السفينتَين حتّى كادتَا تَغرَقان". لِمَ حصلوا على البرَكة؟ لأنّهم يعرفون ويثِقون[ "بِكَلِمَتِكَ أُلقي ٱلشَّبَكَة".] بالذي طلب إليهم أن" تقدَّم إلى العُرض، وأَلقَوا شِباكَكُم لِلصَّيد"، وغامَروا. فصاروا "صيَّادين لِلناس" أي مصدَر حبٍّ ورحمةٍ وعضَدٍ لهُم.
هل نودّ أن نضَع حدًّا للانفلات الأخلاقيّ الذي يَستَتبِع انفلاتًا عُنفيًّا؟ هل تَذكرون وَصيّة الناصريّ؟ ( يوحنّا 13: 34-37؛ يوحنَّا 15: 17 ).



الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium