النهار

وكان مساءً وكان صباحاً.. كارثةٌ إنسانيّة!
المصدر: النهار - كاتيا نادر
وكان مساءً وكان صباحاً.. كارثةٌ إنسانيّة!
أمضيتُ البارحة أفقأ عينيَّ، رفاقي وأنا، لنجمع عناوين المنازل المستعدّة لاستقبال الوافدين من الجنوب
A+   A-
أمضيتُ البارحة أفقأ عينيَّ، رفاقي وأنا، لنجمع عناوين المنازل المستعدّة لاستقبال الوافدين من الجنوب. كبُرَت قلوبُنا، وظننّا لبرهةٍ أنّ في لبنان شعباً واحداً، بعد حرماني النّوم منذ ليالٍ وجعًا على ابني، وطني حبيبي لبنان، وعلى أهلي المجاهدين الذين تركوا منازلهم وأرضهم قسرًا. ومع ذلك، شعرنا أنّنا لا نقدّم شيئًا مقابل دماء الجرحى والشّهداء وأنين الأطفال وتعب النّزوح.
وكان مساءً وكان صباحًا كارثة إنسانيّة.
صُدمتُ بكَمّ عبدة المال الّذين استغلّوا الأزمة من أجل ثلاثين من الفضّة. عرفت أنّ أهلنا افترشوا الأرض في العراء، والتحفوا السّماء، أطفالاً ورجالاً ونساءً، في طرابلس وصيدا وأماكن أخرى.
عرفت أنّ من لا يحمل مبلغًا من المال لدفع الإيجار، طلبوا منه سيّارته رهنًا.
عرفت أنّ بعض "مسيحيّينا" و"مسلمينا" أبدَوا امتعاضهم تجاه وجود النّازحين في مناطقهم.
وعرفت أنّ الفنادق عاملت النّازحين كعاشقَين يمضيان ليلةً ومن دون طعام، من الثّانية عشرة ليلًا حتّى العاشرة صباحًا، بثمانين دولارًا على الأقلّ، ويجب عليهم، بحسب قانون الفندق، أن يتركوا المكان أو أن يدفعوا إيجار ليلةٍ ثانية.
ناهيك عن استهداف المعيصرة وغيرها، والمفقودون لم يجدوهم بعد، والأطفال التّائهة صورهم تملأ وسائل التّواصل، ورحلات الجرحى بين الألم والموت، ما يجعلنا جميعًا متساوين في حربٍ ليس أوانها أبدًا ولكنّها الآن.
هذا الكمّ من الأخبار المؤلمة الّتي قد تصيب كلّ واحدٍ منّا، والبكاء الممزوج بمرّ الضّياع وفخر الشّهادة، والتّيه الّذي يغزو أعين الجنوبيّين "إلى أين نذهب؟" جعلني أريد أن أصرخ بملء رئتيّ لعلّ صوتي يخرق عمقَ زنزانات وجدان كلّ إنسان.
يتآكلني الغضب، ولم يهدأ بعد لكثرة المواقف المشينة الّتي تعرّض لها الجنوبيّون من بعض تجّار الهيكل. شهادات حيّة تدمي القلوب.
عوائل كثيرة جدًا أمضت ليلها في الشّوارع دلالةً على الرّحمة والإنسانيّة وحسن الاستقبال والحفاوة الّتي صرع بها رأسنا الإعلام. وأنا الغبيّة، منذ متى أصدّق الإعلام في لبنان! ولا يزالون حتّى اللّحظة على الطرقات.
يا عيب الشّوم ويا ألف حيف على النّخوة الّتي كانت تميّز شعب لبنان. يعاملون الجنوبيّين وكأنّهم مغتربون قدِموا للاصطياف و"لازم نفرمن"، ونحاسبهم عن ستة أشهر مسبقًا بأسعارٍ خياليّة، آملين أن تطول الحرب، أو نبتسم ابتسامة ليثٍ في وجوههم لننتقم من صمودهم ومن سماحته. أو نزرب ما فوق الخمسين شخصًا في شقّةٍ واحدة، أفضل الشّرّين.
منذ فترةٍ سامحتُ كلَّ من آذاني. اليوم أنا أصارع نفسي كيلا أشتم أو أدعو بالسّوء على شعبٍ ظننته في لحظة تخلٍّ أنّه مسلوب الإرادة ومغلوب على أمره، وعتبتُ على نفسي لأنّي في لحظة تخلٍّ أيضًا تخلّيتُ عن قناعتي بأنّنا مجموعات ولسنا شعبًا، وقلت لنفسي: "إنّه وقت الامتحان، ولن نُهان".
اليوم، أعتذر من كلّ عائلة جنوبيّة اتّصلَت على رقم هاتفٍ أو وصلَت إلى موقعٍ كنتُ قد شاركتُه البارحة على مواقع التّواصل الاجتماعي، وكانت مكافأتُهم الخيبةَ من اللّاإنسانيّة، وواجهت ردودًا مسيئة وألفاظًا سوقيّة ونعوتًا مذلّة، أو وصلت إلى عناوين وهميّة...
أعتذر من سماحته لأنّه شكر كل من يؤوي أهله وهم لا يستحقّون كلّهم الشّكر.
أعتذر من لبنان عن كلّ وصوليّ واستغلاليّ وعديم الرّحمة ممّن يحاول طمس تاريخ هذا الوطن المفعم بحسن الضّيافة وعدم التّمييز والأخوّة والرّجولة.
عذرًا يا وطني، تسلّقَنا الفاسدون لأنّنا فاسدون، ولم يحكمنا الفاسدون لأنّهم أذكياء!!
في ثورة 17 تشرين وأيّام النّزوح السّوري اللّاحق للنّزوح القسري، تجنّدت الـNGO’s وطاف لبنان بالمساعدات الخارجيّة وفتحت الأمم خزناتها لإيواء النّازحين وسط استغلال وطمع عبدة المال أنفسهم. ولا زالوا حتّى اليوم الكارت الّذي يلعبون به فينا!
واليوم، يقاصص الجنوبيّون لأنّ ذنبَهم أنّ علاقتهم بربّهم لا تشبهنا، ولأنّ قناعاتِهم جنوبيّة، من كوكبٍ آخر، لا تشبه قناعاتِنا، ولأنّ تمسّكَهم بأرضهم وبكلمة قائدهم سمةٌ خاصّة بهم لا تعنينا، بل تغيظنا.
ما يحصل في لبنان مخزٍ: إنّه زمن العودة إلى القيم. والأيّام يوم لنا ويوم علينا. فعامل النّاس كما تحبّ أن يعاملوك ولا تعاملهم كما يعاملوك.
أردت اليوم أن أشكو الله كلّ مستغلّ لآلام النّاس، كلّ عديم ضمير، كلّ من يدّعي الإيمان، كلّ من لا يرى في الآخر أخًا مساويًا له في الكرامة، كلّ من تتآكله الأحقاد، والله يعرف كيف يجازيهم.
يعزّيني أنّ في وطني رجالًا أبناء أصل، قيَمهم أصيلة وعميقة عمق جذور الأرز. بارك الله مبادراتهم الفرديّة وليمسكوا التّراب فيرتدّ عليهم صحّةً وفرحًا وسلامًا.
كاتيا نادر – باحثة لبنانيّة في الفلسفة والعلوم السّياسيّة والاجتماعيّة والعلوم اللّاهوتيّة.

اقرأ في النهار Premium