ما يحدث في منطقتنا يتطلَّب قراءة جِيُوسياسيّة في إطار سياسات الاستعمار المستمرّة للشرق الأدنى/ الأوسط منذ بداية القرن العشرين، يَجهلها العامّة. لقد اقتسم "الحُلفاء" تَركة "الرجُل المريض" والمناطق في ما بينهم المناطق، حيث كان يَسيطر عليها ليتحكّموا بها بدَورهم. والجديد الذي طرأ وشكّل الخطر الداهم على الشرق العربيّ تمثَّل بزَرع جسمٍ دخيل كشُرطيّ للاستعمار طليق اليدَين لمُراقَبة الناس وإخضاعهم وتحويل مفاعيل خَيرات تلك المناطق له. ومنذ عُقود تطايَر "الحلفاء" وحاول أقواهم التفرُّد بالهَيمنة على العالم وإخضاع الجميع له، غير أن رجُلًا مريضًا جديدًا يُطِلّ علينا أخيراً، فتُحاول عملاقة الاقتصاد الراهنة وأحد الحلفاء سابقًا ودُوَل "البْرِيكس" وإيران أن تتنازَع تركته، وهو يَستَشرِس في مُناهضتهم ومُحاربتهم إذ يَرفضون هَيمنَته.
وفي قراءة مُجتَزأة وتسطيحيّة وانفعاليّة لواقع لبنان وما يتعرّض له من عُدوان غاشم، يشعُر بعض اللبنانيين، اليوم، باللاعدل وبالكُره والحقد على مَن يتسبَّب بذاك الاعتداء الوحشيّ وتمنّي الموت له. يدعونا الإنجيل دَومًا إلى أن نكون رُحماء. "هي رحمة القلب، يقول القدّيس إسحَق السُريانيّ، هي الشُعلة التي تُضرِمه من أجل كلّ كائن... عندما يفكّر الإنسان فيهم أو عندما ينظر إليهم، يَشعر بأنّ عينَيه مُمتلئتان بدُموع الشفقة العميقة والقويّة التي تَعصر قلبه وتَجعله غير قادر على احتمال أّي معاناة تلِمّ بأيّ كائن أو سماعها أو رؤيتها"... هل تَتطابَق نظرة وموقف أصحاب القراءة الانفعاليّة أعلاه مع رؤية يسوع وإسحَق وموقفهما؟
هذا، ويَستنجِد أصحاب النظرة أعلاه بالله ليَنصرهم على "أعدائهم" ويُحقِّق ما يُريدونه كَفريق "مُحِقّ". ويتساءَلون لِمَ لا يفعل شيئًا لإراحتهم من أعباء ما يقوم به الفريق الآخَر، في الحين الذي يجب أن يفكّروا بمسؤوليّة في موقِفهم وردّات فِعلِهم وما يُمكن أن يقوموا به مع الطرَف الثاني للوُصول إلى أن يُعيد الوطَن إلى الحياة.
ويكمِل إسحَق: "تنسحب الصلاة المصحوبة بالدموع في كلّ ساعة على الكائنات المحرومة من الكلام كما على أعداء الحقيقة أو كلّ مَن يسيء إليها ليكونوا محروسين ومُطهّرين. فتُولد رحمة قويّة ولا محدودة في قلب الإنسان، على صورة الله". النظرة الانفعاليّة تعمي بصيرتنا وتجرُّنا ومَن نَعترض عليهم إلى الهلاك.
في مُقابل القراءة الجِيُوسياسيّة الضروريّة جدًّا، هناك قراءة أُخرى تنطلق من المبادێ والقيَم الإنسانيّة والروحيّة وأُسُس الحوْكَمة الرشيدة للمُجتمَعات التي يُنادَي بها عصرُنا.
فلنُصغ!
صوتٌ من القرن السابع للميلاد يُعلن:"لا تُحاول التمييز بين مَن هو فاضل ومَن ليس فاضلًا. فليكن جميع الناس متساوين بنظرك لتحبّهم وتخدمهم. فتتَمكّن عندئذ من حَثِّهم جميعًا على عمل الخير". رُبّ قائل إنّ الأمر لا ينجح في أيّامنا.
عدَم التميِّيز بين الناس نتَعلّمه من الأزهار والأشجار على اختلافها، فهي مِعطاءة بِلَا تفرقة بين مَن يأتيها طالبًا رائحتها ومنظرها الحُلُو، أو طالب الثِمار منها؛ كما نتعلُّمه من المطر الذي يُحيي الناس بِلَا تمييز أيضًا. فهَل الطبيعة أفضل مِنّا في التعاطي؟ الله نفسه يُعامل الجميع والطبيعة بكرَم، وبِلًا تردُّد أو تفضيل. إسحَق السُريانيّ يدعونا إلى المُساواة بين الناس في الحبّ والخدمة، مما يسمح لنا بِحَثِّهم على عمَل الخَير وتعميم الحبّ والخدمة بين البشَر نَشرًا للسعادة المرجُوَّة.
وإذا "تقدّمنا إلى العُرض" في رؤيتنا ونظرتنا ومُمارستنا على أساس القَول التالي، لَأَصَبنا "صَيدًا وفيرًا": "الصلاة الكاملة تبحث عن حضور المسيح، وتجده في كل كائن بشريّ. إن وجه المسيح الوحيد هو الأيقونة؛ غير أن إيقوناته مُتعددة، ذلك بأن كل وجه بشري هو أيضاً أيقونة المسيح. وإنّ الصلاة هي التي تكشف هذه الأيقونة"- پول إفڤدوكيموف. هذا ما قصده يسوع: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ ... لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ"... (متّى 5: 44-46). ويُضيف إسحَق: "فلتَمِل دفّة ميزانك إلى الرحمة دومًا، حتّى تشعر بالرحمة التي يكنّها الله للعالم". قلب الإنسان الطاهر "يعتبر كافّة الناس أخيارًا بِدون أن يبدو له أحدُهم غيرَ طاهر وخاطئ... إنّها رحمة القلب إزاء العالم أجمع". إذَن، بدلًا من معاملة الناس بنفس طريقة معاملتهم لنا، أو بالطريقة التي يَستحقّونها كما يرَى بعضٌ مِنّا، فَلنُعامِلهم كما نريد منهم أن يُعامِلوننا ( متى 7: 12؛ متى 22: 37-40)، لا بل فلنتوقَّف لنُفكّر كيف نوَدّ أن يعاملنا الآخرون في موقف معين، لِنغرس في أنفسنا تعاطفًا مع مَن يعيشون تلك الظروف بالفعل. هل نودّ أن يُعاملنا الآخرون بمحبّة ورحمة واحترام؟ مفردة "مرتيس" اليونانيّة أو شاهد تعني مسؤوليّته عن خدمة الكلمة والكرازة والشهادة التي هي وظائف أساسيّة له. فهل نُريد أن نخدم الكلمة ونُعلنَها من خلال مُعاملتنا للآخَرين بصَرف النظَر عن تصرّفهم معنا. هل نُريد أن نتبنّى مقولة راوُول فُولِيرو:" إن ما أملكه هو ما أهَبُه. إنّما الحقيقة الوحيدة أن نحبّ بعضُنا بعضًا؟".
في الحقيقة إنّ "رؤية إخوتنا هي رؤية الله".