لن نناقش الخلفيات السياسيّة والعقائديّة التي دفعت بحزب الله إلى دخول الحرب في الثامن من تشرين الأول 2023، ولن نناقش انعكاس التدخل العسكري لهذا الحزب في سوريا والعراق واليمن وتأثير ذلك على تعاطف الشعوب العربيّة معه، ولن نتعرض للصفقات المرتبطة بالمفاوضات الأميركيّة الإيرانيّة، والتشكيك بالنوايا والمخططات وشبكة العملاء، انهيار الدولة اللبنانيّة وتضييع معالم مؤسساتها، والسقوط المالي والفساد البنيوي و... بل سنتناول تحليل الوقائع العسكريّة والأمنيّة وتمكن إسرائيل من القضاء على معظم قيادات الحزب وصولًا الى اغتيال أمينه العام السيد حسن نصر الله الأسبوع الماضي، فما هي المتغيرات التي سمحت لإسرائيل بالتحكم بمفاصل اللعبة الأمنيّة والعسكريّة بعد أن فشلت بذلك في العام 2006؟ أي بعد 18 عاماً من الإعداد المتواصل وصولًا للكلام بأن طريق تحرير القدس أصبحت معبدة بانتظار كلمة السر؟ ولماذا لم تنجح إسرائيل في اختراق مماثل لأجهزة المقاومة في غزة بعد نحو سنة على بدء الحرب؟ سنحاول من خلال هذا التحليل الإضاءة على ما لم يتناوله الإعلام لغاية الآن.
بداية لا بد من الإشارة الى التطور الذي حصل على مستوى الحرب الإلكترونيّة والتتبع المخابراتي لأجهزة الهواتف الذكيّة المنتشرة بين كل أبناء المجتمع بمن فيهم المسؤولون وأبناؤهم، ومتابعة تحليل بياناتها بدقة عاليّة في الداخل كما خلال الحرب في سوريا. ولا أعتقد أن الحزب كان غافلًا عن خطورة هذه التكنولوجيا والاحتياطات المطلوبة تجاه أجهزة تسخرها المخابرات بواسطة البرمجيات المعقدة والذكاء الاصطناعي لكشف وتحطيم العدو. نضيف إليها ما أظهرته جريمة اختراق اسرائيل لشبكة أجهزة تقليديّة مثل البيجر Pager وأجهزة اللاسلكي البسيطة وتفجيرها في وقت محدد والتسبب بمقتل العشرات وجرح الآلاف. وقد ظهر لاحقًا أن هذا الاختراق قد تم التحضير له منذ سنوات عديدة، ليتم استخدامه في الوقت المناسب بحسب خطة العدو. من هنا يمكننا الدخول إلى عنوان عمليّة إعادة بناء الضاحيّة بعد العام 2006، ودخول العديد من الشركات على خط تلزيمات إعادة البناء، واستفادة "حزب الله" الطبيعيّة من الفرصة لبناء بنية تحتيّة خرسانيّة محصنة لحماية مقراته. هذا السياق في الربط بين المعطيات يدفعنا الى التفكير بأن هناك عمليات مشابهة لعمليّة اختراق البيجر سمحت لأجهزة مخابرات عالميّة زرع أجهزة تتبع في الأبنيّة الحساسة وغيرها خلال مرحلة الإعمار، وكانت هي مفتاح التتبع والسيطرة على شبكة التواصل السريّة للمقاومة، والتي أعطيت لاحقَا لإسرائيل لصنع التغيير الكبير في المعادلة بتتبع ومن ثم القضاء على قيادة المقاومة في الضاحيّة أكثر بكثير من قدرة إسرائيل على متابعة تدمير البنيّة العسكريّة للحزب في المناطق اللبنانيّة. لتكون البنيّة الجديدة المحصنة هي المقتل الذي أوصل إلى ما وصل إليه الحزب، ولتتحول تحصينات المقاومة المنيعة إلى نقطة ضعف تسمح بالسيطرة على شبكة الاتصالات السريّة التقليديّة والحديثة، ولتتحول إلى وبال ومقتل يسمح بكشف القيادات وتحركاتهم على عكس ما كان عليه الوضع في العام 2006، وما هو عليه الوضع في حرب غزة.
نستفيد من هذا التحليل للقول إن الأمل ما زال كبيرًا، هناك ضرورة للاستفادة من نقاط القوة المتبقيّة لتصحيح خطيئة تضييع البنيّة الإنقاذيّة للبنان المؤسساتي على صعيد مؤسسات الجيش، الدبلوماسيّة، الوزرات، الإدارات، الاغتراب ومساعدة الدول الصديقة لاستعادة زمام مبادرة إدارة هذه الأزمة المصيريّة، والتدخل بقوة لإنقاذ بلدنا من مخططات لعبة تغيير خريطة المنطقة المعلنة لمصلحة مشروع إسرائيل الكبرى والذي تتضح معالمه يومًا بعد يوم.