يمتطي المجتمع اللبناني جواد الألم، حيث لم يعد المواطن اللبناني يتحمل المصائب التي تتراشقه عند بزوغ فجر يحمل صيحات ألم طويلة الأمد. في 27 أيلول 2024، وقعت أحداث لا يمكن لعقل أن يتصورها ولا يتحملها شعب، صرخات تملأ المدينة، ورائحة الدماء تفوح في أرجاء الأزقة، وصفارات سيارات الإسعاف تعلو، ولا توجد كلمات تعبر عن حالة الرعب التي سادت ذلك اليوم. لم أكن أعلم إلى أين أتوجه، ذاهبةً حاملةً أفكاري وطموحاتي وآمالي، وعائلتي وأصدقائي. لم تعد الحقيبة تحتمل وزن الذكريات، والصلوات المتضرعة للرب لحماية كل من أحب، داعيةً له بالحماية من كل سوء.
كانت الفكرة تطوف في بالي، لكن لم أستطع أن أعبّر عمّا يتخبط بداخلي، فقد صدمت بالأخبار المزعجة وغير الإنسانية. لطالما شعرت بحماسة المغادرة إلى الخارج لزيارة ثقافات مختلفة، لكنني لم أتخيل أبدًا أن أشعر بقبضة في صدري بسبب ما حدث في هذا اليوم المشؤوم. كنت أريد أن أزيل الحرقة والأفكار السوداء، تفاصيل القصف ومشاهد الجثث المتطايرة في أرجاء الشارع. أردت أن أقدّم الدعم والعزاء، لكن كيف؟ كيف يمكن للإنسان أن يقدّم الدعم وروحه ممزقة تنزف من الأنين؟
كلّ ما في الأمر عزاء يتلاشى بين أبنية متداعية تنهار على رؤوس المواطنين، تغطي أرواحًا مرهقة من مشاهد الموت وتمنح العجز يدًا أو لسانًا لا جدوى له. كانت التفاصيل هي كل شيء: البيوت المهدومة، أصوات الغارات والصواريخ، دوامة "هل أنتم بخير؟"، فمهما كان الجسد بخير، فإن الروح متداعية تبحث عن مرفأ لتُرسي ألمها. كان الأفراد يبحثون عن بعضهم بعضاً لطمأنة أوجاعهم، وسط هتافات المظاهرات والخوف والشجاعة ورائحة الموت.
تكتسي الحروب في خيالنا طابع البطولة والملحمية، فما هو أكثر جرأة من مواجهة الموت؟ لكن أليست الحياة أجمل وأفضل من الموت؟ تتعرى أنفسنا عند آلام الآخرين، ونتجه نحو جوهر الصدق والتضحية الوطنية من أجل قضية واحدة: الوطن. الوطنية هي ما تجعل الإنسان يمتلك هوية للعيش داخل بقعة أرض محدودة بقضية موحدة، وهي حماية الوطن، وليس لمصالح خارجية وشخصية، حينها تتداعى الأمور لتنهار على رؤوس المواطنين.
يا وطن، فأنت أساس الهوية في التكوين النفسي للإنسان. يتقاسمون الوطن ويقترعون عليه، لكن ما من مستجيب لوطن لم يتكوّن حتى انهار في اليوم ذاته. كانت المرة الأولى التي أرى فيها الفزع والرعب في عينَي أمي، ولا تزال كلماتها تدور في رأسي وتطعن قلبي: "ماما، فلّي من البيت، ما تبقي هون، أنا وبيّك مندبّر حالنا، المهم أنت تظمتي على الأقل في حدا باقي من العيلة، ما تعتلي همي، فلي فلي!". كيف أستطيع أن أتحمل كلمات أمي، عندما نادتني للخروج من المنطقة والهروب بعيدًا؟
إلى متى سنعيش الخوف من البقاء داخل المنزل، وهو من المفترض أن يكون مركز الأمان؟ أمي هي كل أم ترعى أولادها، تريد تأمين حاجاتهم ومستقبلهم، تخاف على ضياع مستقبل واعد. لكن أيّ مستقبل نتحدث عنه؟ مستقبل يحترق عند كل نفس تصرخ لحياة أفضل؟ إلى متى ستظل الأم تبكي على أحد أولادها الذي يترك البلد قسرًا للعيش بكرامة؟ إلى متى ستظل الأم تبكي في الليل لأنها لا تستطيع تأمين الحليب لطفلها؟ إلى متى؟ والكثير من أمثالها.
تعب الوطن وبكت الأرض دمًا، وما من مستجيب! هل نحن فعلاً نعيش أو نتعايش مع أزمات الوطن الممزق؟ أجهد الكلمات لتنخرط على الورقة، لكنها تعبت ولم تعد قادرة على البقاء، لقد أعلنت استسلامها. قضيتي هي قضية كل إنسان يريد أن يعيش بكرامة، أبسط حقوقه المدنية مؤمّنة: "الأمان". لا تزال الطرقات تنعي أحبابها، ولكن من يتقبّل التعازي لأهالي أحبائهم الذين فُقدوا تحت الأنقاض؟
ذلك الدب الصغير قابع في عزلته على الطريق ينتظر من يخرجه، لكن صديقته الطفلة الشجاعة المناضلة لم تستطع أن تخرج من تحت الأنقاض لتلاقيه بفرحها. قضيتي هي قضية كل إنسان يريد وطنًا، لا مقطعات تغزوها آلاف الأفكار الشرسة العفنة. هي قضية وطن ستقوم قيامة من تحت الركام، لينتصر على أعدائه. أيلزم الموت من أجل الوطن، أم موت الوطن من أجل قيامة من يرعى ويطالب بحقه؟ أريد الخلاص لك، أيها المجاهد، فما من أحد يعمل لصالحك. ليت الحرية تعود يومًا وتجعلك تطير بعيدًا وتحلق عاليًا شامخًا، فأنت تحمل وزر الأثقال والأوزان التي لا تخص هويتك. يريدون تلبيسك أقنعة لا تشبهك، مزعمين أنهم يقاتلون لك ولقضيتك.
ندعو ونصلي لزوال كلّ شاهد زور وكلّ قضية مزيفة تضرّ بسمعة الوطن، لأنّ ما من أعظم أو أسمى من وطن يسعى إلى الصمود في ظلّ كلّ ما يعيشه من ظلم في حقّه. قم، أيها الوطن، لا يليق بك الانكسار، ولا يمكن لطائر مثلك المكوث في الظلمة، فأنت من يستطيع أن يهزّ جناحيه ويصطاد الخير ويجعل الشرّ يتلاشى. فالحقّ يحرّر، وما من حقّ إلّا وسوف يتحقّق ويحرّر، لأنّ الحقّ يحرّر كلّ من هم أهل الحقّ، والباطل يخرج منهزمًا مكسور الظهر بسبب تبلّيه زوراً.
اصمد، أرجوك، فلا حياة خارج حدودك، لأنك أنت المعين الأمين، لأنك أرض مقدسة، والله لا يجعل أرضًا مقدسة غير قادرة على الحمل، لأنه لا يكلف نفسًا إلّا وسعها. أصمد من أجل كلّ من يريدك صامدًا.