صنع مارادونا أسطورته بين بيونس ايريس ونابولي، مع المنتخب سطّر ملحمة خالدة في ملاعب المكسيك، ومع الفريق "الأزرق"، فعوضاً عن قيادته الى لقبين في الدوري الإيطالي أضحى رمزاً لمدينة الجنوب لتفضيلها على أموال الشمالي وأنديته الثرية.
بعد انتظار دام ثلاثة وثلاثين عاماً، بقيت أسطورة "القديس مارادونا" ومنه استلهم "بارتينوبي" بتشكيلة يقودها المدرب لوتشيانو سباليتي وعشاق لا يكلّون عن مؤازرة الفريق في شتى الظروف ليتوج بالـ"سكوديتو" الثالث في تاريخه.
اشتعلت الاحتفالات، بحر بشري امتد من وسط المدينة الى شواطئها، وكأنه اصطبغت باللون الأزرق.
القصة السوريالية ليست مجرد قصة عن الانتصار الرياضي لأحد الفرق المستضعفة في الكرة الإيطالية أو الأوروبية، ربما تكون الميزة الأكثر غرابة هي الطريقة التي تتناغم بها بشكل مثالي مع ما أصبحت عليه نابولي كمدينة.
غالباً ما تتجسد الطبقية بين نابولي الذي ينحدر من الجنوب الإيطالي "الفلاحي"، وذلم بالمقارنة مع فرق مدن الشمالي الصناعي، يمكن أن تشعر نابولي بالفقر والضعف، لا بل يتلقى جمهور نابولي سيلاً من تهكم المنافسين، كما تقول أغنية بينو دانييلي الشهيرة "نابولي قطعة من الورق المتسخ... ولا أحد يهتم".
ربما كان هذا هو السبب الذي جعل دييغو مارادونا يتعلّق كثيرًا بالمدينة، وهذا ليس غريباً إذ في بداية مسيرته في الأرجنتين فضل نادي بوكا جونيورز الذي يمثّل فقراء العاصمة على ريفر بلايت الملقب بأنه فريق المليونيرات، قائلاً "هذه لعبة الفقراء". وبدا أنه يجسد نابولي من نواحٍ عديدة: لقد كان شريرًا صغيرًا فهو أيضًا ولد على الجانب الخطأ من المسارات لكن شقاوته لم تكن أبدًا قذرة. كان عفريتاً، مراوغاً ماهراً، ذكياً ورائعاً. وهذا ما يرى سكان نابولي أنفسهم في كثير من الأحيان. إنهم ناجون أذكياء من الشارع إنهم يستمتعون بقدرتهم على البقاء.
جميع المدن الكبرى تقريباً بها فريقان على الأقل لكن نابولي لديها فريق رئيسي واحد فقط، فكرة القدم هنا توحد بدلاً من أن تفرّق.
كانت معاناتها هي أكثر الطرق التي يعكس بها نادي كرة القدم المدينة. نابولي لم يفز بالسكوديتو منذ 1990 مع مارادونا. كان قد تعرض للإفلاس وهبط إلى دوري الدرجة الثالثة. وبهذا المعنى، كان النادي يتناغم مع مدينة تم تصويرها في كثير من الأحيان على أنها فقيرة وحتى بائسة.
نابولي مكان يتسم بالتناقضات اللانهائية. كل ما تقوله عنها صحيح، والعكس صحيح أيضاً. يمكن أن تبدو بائسة ولكنها معروفة أيضاً كأرض العجائب.
يتم تحذير كل من يذهب إلى نابولي بشأن القنافذ والمحتالين، ولكن هذه هي المدينة السخية التي اخترعوا فيها "القهوة المعلقة"، حيث يدفع الأشخاص الذين يشربون قهوة واحدة مقابل اثنين لأولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكاليفها. هذا مكان يعج بالحياة ولكنه يدرك الموت باستمرار، ليس فقط بسبب البركان الذي يلوح في الأفق والذي قد يمحو كل شيء في لحظة.
من البديهي أن كرة القدم الحديثة تملأ فجوة كبيرة في حياة العديد من الناس، لكنهم في نابولي يأخذونها إلى أبعد من ذلك. يتم الإشارة إلى الأعوام الـ33 منذ آخر لقب، ومقارنتها مع العدد سنوات يسوع المسيح، لذا فإن هذا الإنتصار أمر مقدس من الله.
حرر هذا الفريق المدينة، ربما لفترة وجيزة فقط، من واحدة من أقدم سماتها. تشتهر نابولي بخرافاتها وتعلقها بالأشياء السحرية والتعويذة.
لقد تحررت المدينة أيضًا "من شبح مارادونا". منذ وفاته في عام 2020، أصبح الأرجنتيني شخصية دينية في نابولي، مع مزاراته الخاصة في جميع أنحاء المدينة. نظرًا لارتدائه القميص رقم 10 ، تم وضع "D10" تحت معظم الصور (يبدو عمداً مثل " Dio " أو الإله)... يقول جيانلوكا مونتي، مراسل صحيفة لا غازيتا ديلو سبورت في نابولي: "هذه البطولة انتصار للديمقراطية". في هذا الفريق، لا يوجد ملك محاط بأشخاص أقل فناء: "الفريق بأكمله واحد من أنداد".
سباليتي المهندس
وفي بداية الموسم كان من الصعب تخيل فوز نابولي في وجود القوى الكبرى مثل يوفنتوس وثنائي ميلانو، ناهيك عن روما. وقبل انطلاق الموسم ساد استياء وتذمر بين الجماهير لفقدان لاعبين بارزين مثل القائد لورينتسو إنسيني والهداف التاريخي للنادي البلجيكي درايس ميرتنز بجانب البولندي أركاديوش ميليك وفابيان رويز والمدافع السنغالي كاليدو كوليبالي.
وتحت مظلة سباليتي امتلك نابولي مدربا إيطاليا تخلى عن الأساليب التقليدية وسمح للاعبين موهوبين بالازدهار بعد فترة إعادة بناء سريعة قبل انطلاق الموسم. وحقق نابولي آخر لقبين في الدوري مستلهما عظمة مارادونا، لكن هذا الموسم استند النجاح على تشكيلة متماسكة يقودها مدرب داهية.
ووصل كيم مين-جاي من فنربهتشه لتعويض كوليبالي ليمنح الصلابة للدفاع وتحولت إعارة أندريه فرانك زامبو أنغيسا من فولهام إلى انتقال نهائي بعد أن أكمل ثلاثي خط الوسط المميز بجانب ستانيسلاف لوبوتكا وبيوتر زيلينسكي.
لكن تأثير الجناح الجورجي خفيتشا كفاراتسخيليا (22 عاما) القادم من دينامو باتومي كان حديث الجميع ولفت الأنظار في أوروبا. ولم يكن كفاراتسخيليا اسما معروفا عند وصوله إلى إيطاليا، لكنه سجل 12 هدفا وقدم عشر تمريرات حاسمة في 28 مباراة بالدوري ليقود نابولي للانجاز بعد أن اكتسب لقب "كفارادونا".
وبفضل رؤيته ومهاراته في صناعة اللعب شكل ثنائيا خطيرا مع المهاجم النيجيري فيكتور أوسيمن الذي سطع خلال الموسم بتسجيل 22 هدفا في الدوري في صدارة الهدافين، وبات من ألمع الأسماء المطروحة في سوق الانتقالات.
وأبهر نابولي جماهيره بأسلوب ممتع وتصدر ترتيب الأكثر تسجيلا للأهداف، إذ اعتبر سباليتي أن مفتاح تحرير قدرات اللاعبين في عدم التقيد بالخطط التقليدية.