يقود القطري ناصر المرّي سيارته الرباعية المكيّفة، وعينه على جِمال تتسابق عن يساره، يضغط على زرّ، يتحرّك الروبوت المثبّت على ظهر ناقته فتُسرع، يفرح "المضمّر" الشاب، لكن ليس طويلاً، فقد خسر اليوم سباق الهجن، "الرياضة الأولى في منطقة الخليج العربي".
مع استعداد قطر لاستقبال أكثر من مليون مشجّع لكرة القدم خلال مونديال 2022، يبدو ميدان الشحانية لسباقات الهجن (40 كلم شرق الدوحة) في منأى عن حمّى كرة القدم التي تغزو الإمارة، لكنه يتطلّع الى تعريف زوّار المونديال على نشاطه.
وحدها حماسة المعلّق وصياحه يذكّران بأجواء المونديال، لكأنّه استعار لوصف تقدّم هذه الناقة أو تأخّر تلك، مصطلحات من معلّقي كرة القدم.
"مشكوووووور يا الصامل"
يصدح المعلّق بأعلى صوته بكلمات متقطّعة: "العودة مباشرة إلى مرحّب. مرحّب والفارس. هـــــجن الشحانية. الصاااااامل والمشـــاغب، الصاااااامل والمشـــاغب. مشكوووووور يا الصامل، مشكوووووور يا الصامل".
في سيارة قريبة، يجلس ناصر مع ثلاثة شبّان قطريين آخرين، وينتظر الجميع، بفارغ الصبر سماع صافرة بداية كأس العالم في 20 الجاري.
الشبّان الأربعة "مضمّرون"، أي مسؤولون عن تدريب "المطايا" والإشراف على رعايتها وصحّتها وعن سَوسِها عبر أجهزة اللاسلكي والتحكّم بها عن بُعد خلال السباقات.
ويقول ناصر (23 عاماً) إنّ كرة القدم هي شغف الشباب القطري، لكنّ "الهجن هو رَبْعُنا، الهجن شغفنا الأساسي. إنّها الرياضة الأولى في الخليج".
أمّا رفيقه عبد الله (21 عاماً)، الذي يشجّع منتخب هولندا في كرة القدم، فيأمل أن يزور مشجّعو كرة القدم سباقات الهجن "ليتعرّفوا على رياضة الأجداد".
ومن المقعد الخلفي للسيارة الرباعية البيضاء، يقفز أحمد (18 عاماً) صارخاً بأعلى صوته "نيمار"!
نيمار يسوس ناقة
يُشهر الشاب هاتفه المحمول وعليه مقطع فيديو للاعب البرازيلي حين أتى مع فريقه باريس سان جيرمان الفرنسي المملوك قطرياً، إلى الشحانية، وقام لاعبو الفريق يومها بسوس النوق بواسطة أجهزة اللاسلكي والريموت كونترول في سباق ترفيهي أقيم على شرفهم.
ويقول: "آمل أن يعود نيمار مع بقية أفراد المنتخب البرازيلي، وأن تأتي منتخبات أخرى إلى الشحانية للتعرّف على رياضتنا الوطنية وعيش أجوائها الحماسية".
في مقهى صغير مجاور للميدان، يحتسي علي المرّي (66 عاماً) فنجان قهوة، بعدما أنهت نوقه الثلاث سباقاتها بدون أيّ فوز.
ويقول لـ"فرانس برس": "أنا أمارس سباقات الهجن من قبل أن تصبح الدوحة دوحة. لقد ورثت هذه الرياضة عن والدي. اليوم أنا متقاعد، وهذه الرياضة مكلفة، لكنّ الجِمال حياتي".
ويضيف: "كرة القدم لا تعنيني، فالرياضة بالنسبة لي هي المطايا فقط، وحين أكون بجوار نوقي أشعر وكأنّ العالم كلّه ملكي".
ويعود المرّي بالذاكرة عقوداً إلى الوراء، حين لم تكن هناك ميادين للهجن ولا سباقات تُنظّم وفقاً لطول الشوط وعمر الحيوان وجنسه، بل كان الشبّان يمتطون الإبل ويتسابقون كيفما اتّفق في روضة قرب الدوحة. اليوم، باتت الهجن تتسابق مدفوعة بالأجهزة اللاسلكية والروبوتية.
في ختام الشوط الأخير من السباق وطوله ستة كيلومترات، ينزع السوداني أبو حسين (35 عاماً) وعمّال أجانب آخرون عن ستّة جمال أجهزة الروبوت ويسوسونها إلى "العزبة"، وهي مزرعة تقع بجوار المضمار حيث يعتنون بالإبل.
"لا سقف لسعرها"
في إحدى هذه العِزب الكثيرة المتراصّة، يجلس عبد الله حفيظ (52 عاماً) يحتسي كوباً من الشاي وأمامه طبق من التمر.
ويقول صاحب العزبة إنّ الهجن رياضة تتطلّب الكثير من المال والجهد والمثابرة، مشيراً إلى أنّ المُكلِف في هذه الرياضة ليس سعر المطيّة الذي يبدأ من 10 آلاف دولار تقريباً، بل تدريبها والاعتناء بها الذي يكلّف 1500 دولار على الأقلّ شهرياً للناقة الواحدة.
لكن إذا حقّقت الناقة انتصارات متتالية، عندها "لا سقف لسعرها وقد يصل إلى مليون دولار وأكثر".
وإذا كانت الرهانات ممنوعة، فإنّ المتسابقين (أصحاب الجمال أو المضمّرون) يتنافسون على جوائز قيّمة تقدّمها في الغالب العائلة الحاكمة التي ترعى هذه الرياضة التراثية.
وغالباً ما تكون الجائزة في السباقات العادية سيارة رباعية حديثة ثمنها عشرات آلاف الدولارات، وفي بعض السباقات الوطنية أو الإقليمية قد تصل الى "عشرات بل إلى 200 سيارة وأكثر".
بين كرة القدم والهجن
الى جانب حفيظ، يجلس ابن أخيه محمد (27 عاماً)، وهو لاعب كرة قدم سابق. ويقول الشاب إنّ القاسم المشترك بين كرة القدم والهجن هو أنّ الرياضتين تتطلّبان مجهوداً بدنياً وذهنياً كبيراً من "تدريبات على مدار الأسبوع وحمية غدائية معيّنة وإشراف طبّي وتركيز عال".
ويتعيّن على المضمّر بذل مجهود بدني كبير لتحضير ناقته للسباق من تدريبها وإطعامها والاعتناء بها.
قبل عقدين من الزمن، كان سائسو الهجن في السباقات أطفالاً صغاراً من دول فقيرة، وكلّما كان الطفل هزيلاً كلّما كان وزنه على ظهر الجمل أخفّ وكانت بالتالي فرصة الفوز أكبر.
لكن مع الحوادث المميتة التي كان يتعرّض لها هؤلاء الصغار وجشع آبائهم الذين كانوا يحرمونهم الطعام لكي لا يسمنوا أملاً بزيادة فرصهم بالفوز وتالياً مكافآتهم المادية، رضخت الحكومات الخليجية للضغوط الدولية وحظرت مشاركة الأطفال.
واستعيض عن الصغار بأجهزة روبوت هي عبارة عن محرّك يعمل بالبطارية ومزوّد بسوط بلاستيكي يتم تركيبه على ظهر الناقة. وعندما يُشغّل المحرّك، يلسع الناقة فتُسرع.
وبالإضافة إلى السوط الآلي، يستخدم السائس جهازاً لاسلكياً يصيح عبره فتسمع المطيّة صياحه من جهاز ثانٍ مثبّت عليها.
ومع الاستغناء عن الأطفال في سباقات الهجن وزوال الجانب القاسي عنها، باتت هذه الرياضة تجذب السياح الغربيين الذين تُنظَّم لهم باستمرار رحلات سياحية يتمّ خلالها تعريفهم بـ"رياضة الخليج الأولى".