في خضمّ خوف التعرّض للبطش والعقوبات التعسفية ويوميات الحرب القاسية، ظهر العراق للمرة الأولى على المسرح المونديالي في المكسيك عام 1986، فاتحاً بالتوازي مع جبهات القتال، جبهة رياضية لم تتكرر منذ 36 عاماً.
لم تقف المعارك المشتعلة في جبهات القتال ورحى الحرب ضد الجارة إيران والتلويح بعقوبات وبطش يطال اللاعبين، حاجزاً أمام تطلعات "أسود الرافدين" من تحقيق حلم التأهل إلى المونديال.
مغامرة تاريخية بدأت في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1985.
فبينما كان العراقيون منشغلين بيوميات الحرب القاسية، كانت أنظارهم متجهة إلى مدينة الطائف في السعودية، حيث يخوض منتخبهم مواجهة مصيرية أمام سوريا.
يستذكر نجم المنتخب العراقي كريم صدام قصة التأهل التاريخي إنها: "بدأت بخطة مشروع دولة تبناه وزير الشباب والرياضة العراقي الأسبق كريم الملا، في فترة كان هناك جيل ذهبي من اللاعبين يقف وراء صناعته المدرب الراحل عمّو بابا".
يضيف صدام مسجل هدف حاسم في مرمى الإمارات وضع العراق مع سوريا في لقاء فاصل أن "طالما أن الاتحاد العراقي السابق كان على رأسه نجل رئيس النظام السابق (عدي صدام حسين)، توفّرت له الأموال واستقدم طاقماً تدريبياً برازيلياً".
تعاقد الاتحاد حينها مع البرازيلي جورج فييرا يساعده مواطنه إدواردو كويمبر (ايدو) لقيادة المنتخب.
الطائف أرضاً بديلة
ولكن بسبب مرضه، لم يتمكّن فييرا من مواصلة مهمته بعد تأهله إلى مونديال المكسيك، فلجأ الاتحاد إلى مواطنه إيفاريستو لتولي المهمة.
أرغمت ظروف الحرب مع إيران المنتخب العراقي لخوض كل مبارياته خارج أرضه، بقرار من الاتحاد الدولي (فيفا)، فكانت مدينة الطائف السعودية بديلاً.
يوضح صدام أن اللعب في الطائف ساهم في دعم قصة التأهل "في استاد الشعب في بغداد، كنا نتعرض لضغوطات كبيرة. كان ذلك موجهاً أساساً بشكل غير مباشر ضد المسؤول عن منظومة كرة القدم، في انعكاس للأزمة السياسية بين الشعب والحكومة".
ويوضح أنه "في الطائف، كنا نشعر بارتياح كبير، وإن كنا نخشى انعكاسات سلبية من قبل صاحب القرار، كنا نبذل كل ما في وسعنا لتحقيق الفوز، وغير ذلك يعني علينا انتظار إجراءات تعسفية".
"حليق الرأس"
كان الجهاز الفني البرازيلي متعاطفاً مع اللاعبين إزاء العقوبات التي كانت تطالهم أحياناً، بحسب ما يوضح أبرز لاعبي نادي الرشيد الذي كان يرأسه عدي صدام حسين.
يقول صدام: "عندما عاد مدرب اللياقة البدنية البرازيلي لانسيتا من إجازته، فوجئ بمنظر عدد من اللاعبين. وجدني حليق الرأس مع زملائي، الراحلان ناطق هاشم وأحمد راضي وكذلك شاكر محمود، إثر الخسارة أمام الزوراء في الدوري أدت إلى معاقبتنا".
ويتابع: "لم أنس حديث لانسيتا عندما قال لي إنه من المفترض أن يحتفي الاتحاد العراقي بلاعبيه المتأهلين إلى كأس العالم وليس معاقبتهم، بسبب خسارة ناد يمثلونه في الدوري".
كانت مواجهة سوريا هي الأصعب في رحلة التأهل إلى المكسيك، خصوصاً اللقاء الأول على ملعب العباسيين في دمشق، لكونه لقاء فاصلاً من جهة، وتعرض لاعبي المنتخب العراقي إلى إساءات من جمهور المضيف.
يكشف مهاجم المنتخب العراقي: "واجهنا في تلك المباراة التي انتهت سلباً ممارسات غير رياضية وإساءات وصل الحد فيها أن أطلق المشجعون السوريون في أرضية الملعب ديكاً ودجاجة للتلاعب بنفسية اللاعبين".
لكن العراقيين واصلوا الرحلة، وتخطوا سوريا في المباراة الثانية في الطائف بثلاثية.
"الثواب والعقاب"
كان المنتخب على وشك مغادرة التصفيات، بحسب صدام، ما أثار الخوف في نفوس اللاعبين، لكن "الهدف القاتل الذي حسم مواجهة الإمارات وأذهل مدربها كارلوس ألبيرتو باريرا، كان نقطة مضيئة في مسيرتي".
يرى صدام أن "التخوّف من إرسال اللاعبين إلى الوحدات العسكرية وجبهات القتال أثناء الحرب العراقية الإيرانية وإلغاء تفرغهم مع المنتخب، كان يسيطر على جميع اللاعبين في وقت كانت المعارك الطاحنة تشتد".
ويوضح أن "مسؤول منظومة كرة القدم يتمتع بمزاجية قاسية، ولا يتردد في اتخاذ أي إجراء تعسفي".
اقتصرت مشاركة العراقيين في مونديال المكسيك 1986 على الدور الأول بملاقاة البارغواي (0-1) وبلجيكا (1-2) وأصحاب الأرض المكسيك (0-1).
لكن صدام يشير إلى أنه "رغم تعرض المنتخب لثلاث خسارات، قدمنا مستوى طيباً لم يشفع لنا بعد العودة وما كان متوقعاً من إجراءات عقابية ينتظرنا. أعادني إلى نادي الجيش وكذلك زميلي الراحل ناطق هاشم أعيد إلى ناد عسكري إيضاً، القوّة الجوية".
ويلفت صدام إلى أن "التخصيصات المالية بواقع ألف دولار لكل لاعب في كل مباراة، لم تسلم من تلك العقوبات الصارمة".
ويضيف أنه "بعد انتهاء إحدى المباريات، طُلب منا إعادة تلك المبالغ. ذلك لأن أي انتصار للمنتخب كان رئيس الاتحاد المتفرد بقرارات منظومة كرة القدم في تلك الفترة، يحسبه انتصاراً شخصياً له، وأي هزيمة يعدّها ضده ما يدفعه عادة إلى سياسة العقاب والثواب".
"مسؤول مهووس"
كان مسؤول الرياضة حينها "مهووساً بحب الذات والترويج لشخصيته وسلوكياته" وفق صدام.
يقول إنه قبل انطلاق المونديال وحينما كان المنتخب متواجداً في المكسيك: "طلبت منا إدارة الوفد بشكل مفاجئ أن ندعو رئيس الاتحاد للتراجع عن قرار اتخذه باستقالته، في إشارة منه إلى تذكير الناس بدوره بإيصال المنتخب إلى كأس العالم، وبالفعل قام اللاعبون بذلك وتراجع فعلاً".
وكشف صدام أن "رفض المدرب البرازيلي الشهير إيفاريستو التدخل في شؤونه وعدم رغبته بتلقي التوجيهات، دفعت برئيس الاتحاد الذي اعتاد على التدخل في كل صغيرة وكبيرة، أن يعتمد في إيصال توجيهاته على لاعبين بعيداً عن عيون المدرب".
ومنذ مشاركته تلك، لم يتمكن المنتخب العراقي من الظهور مرة أخرى في هذا الحدث الكروي الأكبر، لا سيما بعد فترة عانت فيها كرة القدم في العراق من حصار قاري وعربي فُرض عليه إثر قرار النظام السابق غزو دولة الكويت في العام 1990.
ويرى المتابعون أن الغياب القسري للأندية العراقية عن المسابقات الآسيوية والعربية، كان بداية لمرحلة قاتمة لم تشفع لها ظروف التغيير التي شهدتها البلاد بعد العام 2003.
ويعزو مدرب المنتخب العراقي الأسبق أكرم أحمد سلمان غياب العراق المتواصل عن كأس العالم منذ 2003 إلى "غياب التخطيط الإداري الصحيح، وعدم انتهاج سياسة العمل الفني المستقر".