سيول تسعة ملايين نسمة، عاصمة كوريا الجنوبية، بلاد بعيدة للغاية استضافت حدثاً كبيراً جداً هو دورة الألعاب الأولمبية الرابعة والعشرين عام 1988.
وكوريا الجنوبية كانت وقتذاك بلداً مضطرباً في آسيا، ومحور الاهتمام العالمي، بلد الترقب والمتناقضات، سكانها أناس في إمكانهم أن يسحروا المرء أو أن يرعبوه. بلدٌ لا يزال يبحث عن هوية، وعاصمة قفزت مباشرة من القرون الوسطى إلى عام 2000.
عندما وافقت اللجنة الأولمبية الدولية على منح سيول حق تنظيم الألعاب الأولمبية بـ52 صوتاً عام 1981 في مدينة بادن بادن في ألمانيا الغربية، برزت كوريا الجنوبية بين عشية وضحاها في الواجهة السياسية لعالم الرياضة. وفجأة تبيّن أن الناس يعرفون القليل عنها باستثناء تذكّرهم للحرب الكورية التي اندلعت ما بين 1950 و1953.
أصبح البلد الهادئ مستعمرة يابانية خلال الفترة ما بين 1910 و1945. ومع انفراط التحالف الاميركي السوفياتي عام 1945، عرفت كوريا الاضطرابات، وقسّمت الدول العظمى كوريا إلى كوريتين، وكان هذا التقسيم أقسى من تقسيم ألمانيا وأشدّ رهبة.
فهناك منطقة منزوعة السلاح على خط العرض 38، وليس فيها اتصالات بريدية، ولا هاتف ولا خط مواصلات وتماماً مثل معجزة الصعود الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، نهض الكوريون بقوة، وعلى رغم قلقهم من الاضطرابات السياسية التي تعكّر نموهم الاقتصادي وحلفهم الوثيق مع الولايات المتحدة، فإن الكوريين الجنوبيين يعتمدون على أنفسهم في أمور كثيرة.
وهذه الناحية ليست جديدة على المجتمع الكوري، أرض التايكوندو، إحدى الرياضات القتالية القديمة التي مورست منذ أكثر من ألفي عام إلى جانب السيسروم، أحد أنواع المصارعة الكورية القديمة.
وفي 17 أيلول 1988 تناست كوريا الجنوبية همومها ومشكلاتها على مدى 16 يوماً، وكانت سيول قبلة العالم وعاصمته، حيث أقيمت أضخم دورة أولمبية حتى تاريخه، وكسبت الرهان بتقديم ألعاب باهرة.
وفي كوريا الجنوبية "أرض الصباح الهادئ"، كانت الغالبية العظمى من المواطنين مصمّمة على إظهار أفضل وجه لبلادها أمام العالم، وفي حفل الافتتاح تجلّى تاريخ البشرية كلّه في الاستعراض الذي أقيم في الاستاد.
وللمرّة الأولى في تاريخ الألعاب، بدأت مراسم المهرجان من خارج الملعب وتحديداً من مياه نهر هان المجاور، حيث كانت سفينة كبيرة تتقدّم أسطولاً من خمسة آلاف زورق وتقوم باستعراضات رائعة.
تفوّق سوفياتي
وسُجّلت عودة كرة المضرب للمرة الأولى منذ 64 عاماً، ودخول "اللعبة الديبلوماسية" كرة الطاولة.
وفي ثاني مدينة آسيوية تستضيف الألعاب بعد طوكيو عام 1964، وتحسّبا لأي ردود فعل بعد التظاهرات الطلابية التي قمعتها السلطات قبل الدورة، خُصّصت تدابير أمنية غير عادية.
وشهد أسبوعا المنافسات حصد الاتحاد السوفياتي 55 ذهبية، وحلّت المانيا الشرقية ثانية بـ37، والولايات المتحدة ثالثة بـ36. وبذلك كرّر الاتحاد السوفياتي إنجاز الصدارة للمرّة السادسة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أما أبرز نتيجة عربية فكانت ذهبية للمغربي إبراهيم بوطيب في سباق 10 آلاف م.
سباق القرن
وسَجّلت الدورة عودة علنية للمحترفين، ففازت الألمانية الغربية شتيفي غراف بذهبية كرة المضرب، ووصلت المنافسة بين الأميركي كارل لويس والكندي بن جونسون في سباق 100م إلى القمة، فأطلق عليه "سباق القرن".
وفاز جونسون مع رقم عالمي جديد مقداره 9.73 ث في 24 أيلول، ثم انفجرت أشهر فضيحة في التاريخ الأولمبي بعد ثلاثة أيام حيث تبيّن أن العداء الكندي تناول منشطات فقُدّمت الذهبية إلى غريمه وشُطب الرقم.
والأوفر ألقاباً بين الرجال كان السباح الأميركي مات بيوندي الذي أحرز سبع ميداليات منها خمس ذهبيات في سباقات 50 و100 م حرة، والتتابع 4 مرات 100 م و4 مرات 200 م حرة و4 مرات 100 م متنوعة.
وكانت الألمانية الشرقية كريستين أوتو نجمة الأحواض والأولمبياد معا، فقد انتزعت ست ذهبيات من أصل ميداليات بلادها الـ37، أي أقلّ من السدس بقليل.
ووحده الأميركي غريغ لوغانيس تمكّن من الاحتفاظ بلقبين وذلك بعد فوزه في مسابقتي الغطس المثيرتين. وهو كاد يفقد حياته خلال المنافسات إذ اصطدم رأسه باللوحة المخصّصة للقفز وهو في الهواء في اتجاه الحوض، فسقط في الماء الذي تعكّر بالدم. بيد أن السباح الأميركي نجح في الخروج بمفرده من دون مساعدة ووضعت له أربع غرز.
وبعد نصف ساعة، عاد لوغانيس إلى المنصّة وأعاد القفزة ذاتها وحقق أفضل نقطة في الدور التمهيدي.
وإلى الميدالية الذهبية في سباق 100 م بعدما عادت إليه حقوقه، اجتاز الأميركي كارل لويس 8.72 م في الوثب الطويل، ما ضمن له الاحتفاظ بالذهبية أيضاً.
ورافق انتصار مواطنته فلورنس غريفيث جوينر ذات الصوت العريض والأظافر الطويلة الملونة في سباقي 100 م و200 م ورقميها القياسيين العالميين المثيرين للجدل 10.54 ث و21.34 ث تساؤلات عدة. وفازت مواطنتها جاكي جوينر كيرسي بذهبية الوثب الطويل والمسابقة السباعية.
بوبكا عالياً
وأخيرا بات بطل العالم السوفياتي سيرغي بوبكا بطلاً أولمبياً في القفز بالزانة، وهو الموقع الطبيعي للقافز الفذ. في سيول، اجتاز إرتفاع 5.90 م فاهتزت العارضة ولم تقع ما ضمن له الميدالية الذهبية بعد مخاض عسير أمام مواطنيه روديون غاتولين وسيرغي ايغوروف.
وتألق بطل الجمباز السوفياتي فلاديمير ارتيموف، وأضحى الرباع التركي نعيم سليمان اوغلو بطل الملايين في بلاده الجديدة والمحرومين في موطنه السابق بلغاريا والذي لم يستطع أن ينافس تحت رايته في لوس أنجلس 1984 بسبب "المقاطعة الشرقية".
وكانت الموهبة الفذّة أو هرقل العصر دجاجة ذهب لتركيا، وهو تمكّن في سيول من تحقيق ستة أرقام عالمية في وزن 60 كلغ، ورفع ثلاثة أضعاف وزنه!.
وكما كان للدورة نجومها وأبطالها، فإن سجل الخاسرين ضم نجوماً بارزين في طليعتهم المغربي سعيد عويطة الذي خسر رهانه وتحديه، وبطل 400 م حواجز الأميركي إدوين موزيس، وعملاق المسابقة العشارية البريطاني ديلي تومسون، وسلطان رمي المطرقة السوفياتي يوري سيديخ، وبطل التجذيف الفنلندي بيرتي كاربنتينن الذي لم يخسر في الفردي منذ دورة مونتريال 1976.
وإذا كانت لا تمرّ دورة من دون مفارقات، يُسجّل في سيول بعض الاتهامات بالتلاعب بنتائج الرماية والملاكمة، والتهجم على الحكام وضربهم، ومن أبرزها تحوّل حلبة الملاكمة التي كانت تقام عليها مباراة الكوري الجنوبي بيون يونغ والبلغاري ألكسندر خريستوف، إلى مسرح لفوضى كبيرة واشتباكات عدة.
كما تسجّل محاولة سرقة تمثال من أحد الملاهي الليلية، قام بها بطلا السباحة الأميركيان في فريق التتابع 4 مرات 400 م، تروي دلبي ودوغ جيرتسن.
المنشطات تضرب
وإلى الفضيحة المدوية في المنشطات وبطلها الكندي بن جونسون، أثيرت فضيحة الرباعين البلغار الذين عادوا إلى بلادهم بعدما اكتشف تعاطي مواطنيهما متكو غرابليف وأنجيل غونيتشيف الحائزين على ذهبيتي وزني 56 و67 كلغ العقاقير الممنوعة.
ولحق بهم المجريون بعدما اكتشفوا أن رباعهم أندرو تشاين الحائز على فضية وزن 100 كلغ متنشط.
أما الاكتشاف الحسّي للحالات فشمل ستة رباعين فضلاً عن لاعبين في الخماسي الحديث ولاعب جودو، و"أبطالها" من إسبانيا وإنكلترا وأوستراليا.