تجتاح مواقع التواصل الاجتماعي عالمنا بشكل يجبرنا على دقّ ناقوس الخطر الآن وفوراً، إذ بتنا نستطيع الدخول إلى بيوت وحياة روّاد المواقع والتطبيقات الخاصّة ومشاركتهم تفاصيل أيّامهم عبر مقاطع فيديو مصوّرة أو تقنيات البثّ المباشر، التي تُتيح للمشاهد متابعة ومراقبة صاحب الحساب بكلّ تفاصيل يومه.
في المشهد المعاصر، أصبح تطبيق "تيك تيوك" هو الأوّل بين التطبيقات اليوم بسبب المردود المالي الضخم الذي يعيده على روّاده، إذ تحوّل من منصة تواصل اجتماعيّ إلى منصّة تجاريّة، يتاجر من خلالها كلّ شخص بنفسه بإرادته الكاملة لقاءَ مبالغ ماليّة مرقومة في جولة تنافسيّة تحت شعار "كبسوا وشدّوا"، و"ضيفوا الداعمين"، عبر تقنيّة البثّ المباشر.
و"تيك توك" تطبيق من التطبيقات التي حقّقت نموّاً سريعاً في وقت قصير، ويستخدمه الملايين من البشر، ومُتاح في أكثر من 153 دولة حول العالم بـ75 لغة مختلفة، حتى أصبح وسيلة لجني ملايين الدولارات، وواحداً من أكبر الشبكات الاجتماعية على مستوى العالم الأكثر منافسة لمواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة.
في الإطار، سلّطت الدراما الرمضانيّة هذا العام الضّوء على إدمان تيك توك في داخل كلّ منزل، فظهرت الممثّلة مرح حسن في مسلسل "النار بالنار" بدور ملك الفتاة التي تقضي نهارها على البثّ المباشر في التطبيق، وتخوض جولات تنافسيّة مدّة 12 ساعة في اليوم، تنفّذ خلالها "أحكام سلخ"، فتُحكم بوضع الطحين والبودرة وفقس البيض على رأسها، وهي تردّد "شيّروا... كبسوا"، "بدنا نربح الجولة يا شباب".
وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي منذ أيّام بجولة رسميّة أقامتها شركة "تيك توك" بين الشاب قعيّد المجد من السعودية والشاب يوسف من باكستان سُمّيت بـ"الجولة الأقوى في تاريخ تيك توك" في بث شاهده نحو مليون شخص. وحصدت الجولة على نحو 4 ملايين ريال سعودي أي ما يقارب المليون وستّة وستّين ألف وأربعمئة وستّة وخمسين دولاراً أميركياً وتم توزيع المبلغ كالتالي: "تيك توك" 2.6 مليونا ريال، قعيد 700 ألف ريال ويوسف 500 ألف ريال.
كيف يجني روّاد تيك توك الأموال؟
يمكن لأي شخص بعمر الـ18 وما فوق إنشاء حساب على التطبيق وتحميل مقاطع الفيديو الطريفة أو التوعويّة من خلال أصوات من حملات توعويّة أو مقاطع من أغانٍ أو مسلسلات وغيرها وفور تحقيق هذا المقطع مشاهدات عالية، تدفع الشركة ما يتراوح بين 2 – 4 دولارات لكلّ 1000 مشاهدة حقيقية. إلّا أنّ هذه الميزة غير متوفّرة في لبنان.
وفور وصول حساب العميل إلى 1000 متابع حقيقي يمكنه فتح بثّ مباشر وخوض منافسات بين "تيك توكرز" آخرين وفق مستوى كلّ منهم.
وتتراوح مدّة الجولة الواحدة من ثلاث إلى أربع دقائق يتنافس خلالها لاعبان بوجود متابعي وداعمي كلّ منهم حيث يبدأ الداعمون بالضّغط على الشاشة بطريقة سريعة ومتواصلة في خطوة لزيادة عدد الإعجابات بالبثّ ومستوى اللّاعب مجاناً أو شراء نقاط وعملات تيك توك لإرسال الهدايا ودعم طرفهم المنافس.
وتُرسل الأموال على شكل هدايا كالوردة والأسد والطائرة والسفينة وغيرها، وتصبّ في حساب اللّاعب ليتقاضاها بالعملة الصّعبة.
وبعد أن تنتهي الجولة يشكر اللّاعب الداعمين ويطلب من متابعيه إضافتهم في خطوة لتقدير كرم الداعم وزيادة متابعيه ويعطي منافسه الخاسر 3 أحكام يختار الأخير واحداً منها لينفّذها علناً أمام الجميع في البثّ.
وتتراوح الأحكام بين الرقص، وضع الماكياج، الاستحمام بالملابس، وضع معجون الأسنان تحت العيون، الوقوف بوضعيّات يختارها الحاكم أو وضع البيض والطحين والبودرة على الرأس والوجه مدّة جولة ثانية.
كما يمكن جني الأموال من تيك توك عن طريق خلق محتوى خاصّ بك. فنرى الكثير من الأشخاص محتواهم تذوّق الطّعام في المطاعم، مقارنة الطعام، الطبخ، تعليم اللّغات، عرض ثياب، تعليم حرف وعقد، تحميل مقاطع من مسلسلات وغيرها. وهذه الميزة متوفّرة فقط في أميركا، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، إسبانيا وإيطاليا.
ولتحقيق الربح عن طريق المحتوى على المشترك أن يكون بعمر الـ18 سنة وما فوق لديه 10.000 متابع ويحقق 100 ألف مشاهدة وما فوق، تتميّز مقاطعه بالإبداع والتميّز وملتزم بالقوانين والأحكام التي تضعها المنصّة.
كيف يتقاضى الرّابح أمواله؟
الوكالات في لبنان هي صلة الوصل بين الشركة والمستخدم. وهنا تشرح شركة "هادي ميديا" الحائزة على وكالة من شركة "تيك توك" في لبنان أنّه إذا كان الغرض من حساب تيك توك هو المال فقط فيمكن للمستخدم التعامل مع إحدى الوكالات التي من شأنها أن تؤمّن العدد الكافي من المتابعين لخوض البث المباشر أو دفع مبلغ 8 دولارات وما فوق لقاء 1000 متابع حقيقي فقط.
وعندما يريد صاحب الحساب الحصول عل أمواله، يتواصل مع الوكالة المعتمدة ويرسل إليها حسابه فتحوّل الوكالة مجموع النقاط في حسابه إلى أموال وترسلها له عبر "ويستيرن يونيون" أو "ويش" إذا كان فرع الوكالة في منطقة بعيدة أو يمكن للمستخدم الذهاب بنفسه للوكالة وتحصيل أمواله.
ولا تحدّد الشركة مبالغ محدّدة لسحب الأموال فيمكن للمستخدم سحب مبلغ 10 دولارات وما فوق لقاء عمولة تتراوح بين 4 و30 في المئة وفق كلّ وكالة.
النقود تظهر في حصّالة التطبيق على شكل نقاط يجمعها المشترك من تحدّيات البث المباشر، الصناديق والهدايا التي تُرسل من قبل "الفانز" والداعمين.
وتتفاوت أسعار الهدايا بدءاً من الوردة بـ0،001 دولار وتحسب على أساس نقطة واحدة في التطبيق، الأسد 30.000 نقطة بـ330 دولار أميركي وهديّة تُسمّى بـ"تيك توك يونيفيرس" يصل سعرها إلى الـ600 دولار.
وتحصل شركة تيك توك على 50 في المئة من مجموع الأموال تلقائيّاً حيث تُؤخذ نسبة الشركة من النقاط فور إرسالها فتصل نصف النقاط إلى حساب اللاعب.
كيف يرى الطب النفسي هذه السلوكيات؟
تعتبر الأخصائيّة النفسيّة ريتا عطالله أنه بالرغم من القيود الكثيرة التي تفرضها شركة "تيك توك" على روّاد التطبيق، إلّا أنّ التجاوزات جائزة لا محال. والشركة تحظر الحسابات فور اكتشافها وعند محاولة تسجيل الدخول مرة أخرى، يُطلب من المستخدم صورة الهويّة أو صورة "سلفي مع الهويّة" في محاولة للسيطرة على أعمار روّاد التطبيق.
وتلفت إلى أنّ منافسات البثّ المباشر تؤثّر سلباً على الأشخاص، وعيادات الطبّ النفسي تعجّ بمتنافسين على "تيك توك" لأنّ الموضوع غير مضبوط، والدولة لا تتقاضى رسوماً أو ضرائب على أرباح التطبيق وميزاته مقارنةً بدول أخرى.
وأكّدت أنّه في أكثر الأحيان فإن التجاوزات التي تحدث مباشرة على الهواء لا يُسيطر عليها إلّا بعد أن تُبثّ، ونحن بحاجة ماسّة إلى دراسات إحصائيّة لمعرفة الضرر الآني والبعيد المدى للأجيال المتصاعدة.
وعن المبالغ الطائلة التي تُدفع في المباريات، أوضحت أنّ الشّخص الذي يدفع مبالغ ماليّة هائلة في منافسة مباشرة بين شخصين إمّا يكون مدمناً على التطبيق والجولات والإدمان لا حدود له، أو أن خططه تفوق الدعم التسلية وتسلك طريق الاستدراج للاستفادة من الطرف الآخر كعلاقات عاطفية أو جنسية أم أن حب الشهرة والغرور يدفعهم لصرف مبالغ مرقومة مقابل معرفة اسمهم "الداعم الأقوى".
وكثرت في الآونة الأخيرة المشاهد والإيحاءات الجنسية في البث المباشر من الكلمات إلى السلوكيّات والأحكام التي يطلقها المنتصرون بفضل داعميهم على الخاسرين فترى وضعيّات مغرية بملابس ضيّقة، إيحاءات جنسيّة أثناء تناول الطّعام أو في طريقة الكلام وشكل الملابس التي يختارونها للظهور مباشرة على التطبيق.
إلى ذلك، ترى عطالله أن الأشخاص الذين يعانون من انحرافات جنسية تسهل عليهم تطبيق سلوكياتهم عبر منصّات التواصل الاجتماعي من خلال حسابات أو هويّات مزيّفة. فالعالم الافتراضي سيف ذو حدّين إمّا توعويّ أو اضطرابات وسلوكيات مرضيّة.
وأكدت عطالله أن الكثير من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي تعرضوا للتحرش أو تعرفوا على أشخاص مضطربين نفسيّاً. فهم عادة أشخاص لا يتمتعون بالنضج الكافي ينخرطون بسلوكيات يندمون عليها لاحقاً، وهذا ما نراه في عياداتنا، خاصة المراهقات اللواتي يقعن في فخّ الـ"سكرين ريكوردينغ" الذي من شّأنه أن يحطّم حياتهنّ وهي معاناتنا اليوم بالقضايا والمحاكم.
من جهتها، أكدت إحدى الضحايا للطبيبة النفسية أن المبلغ المالي المرقوم من منصّات التواصل الاجتماعي ينتج فعلاً عن أعمال وإيحاءات جنسية تشجع الداعم لدفع أرقام كبيرة مقابل لكلمة أو صورة أو مشهد أو حتى رقصة على أغنية أم تنتج عن تهديد وابتزاز جنسي.
وقال أحد مستخدمي التطبيق إنه فور وصوله إلى 1000 متابع وبعد خوض تجربة البثّ المباشر عدة مرات بعدد ضئيل جدّاً من المشاهدين، تواصلت معه وكالات عدة وحددت له مواعيد مقابلات فيديو مع القيّمين على الوكالة لمدة ساعة في الأسبوع عرضوا عليه خلالها دعم حسابه من قبل الوكالة بالإضافة لتعريفه إلى طرق وأساليب رفع الدعم، الحماس أثناء البثّ، خوض المنافسات، المسموح والممنوع خلال البثّ وخطوات زيادة مدخوله المادي بمساعدتهم.
التوحّش الاجتماعي فُعّل، المقاعد الدراسيّة وأماكن العمل خالية وبث "تيك توك" مشتعل على مدار اليوم. في زمن الركود الاقتصادي وازدياد معدّل البطالة والفقر والجهل في لبنان، جيل شباب المستقبل في ثبات افتراضي ينفق أو يجني من لا شيء. وبعد الورود والأسود و"كبسوا وشدّوا" هل نستقيم يوماً؟