شكّلت شبه الجزيرة الأيبيرية ملجأً لسكان القارة الأوروبية خلال العصر الجليدي الذي غطاها قبل 26 ألف عام، سعياً منهم إلى البقاء على قيد الحياة، وفقاً لدراسة استندت إلى تحليل جينات مئات من أسلافنا البعيدين.
وتفصّل الدراسة بدقة غير مسبوقة عمليات هجرة للصيادين وجامعي الثمار الذين كانوا يقيمون في القارة الأوروبية، قبل 35 ألف سنة إلى 5 آلاف، فيما تطرقت كذلك إلى الأثر الذي نجم عن التغير المناخي الحاصل آنذاك.
ودرس معدّو البحث الذي نُشر الأربعاء في مجلة "نيتشر" جينات بقايا أكثر من 350 صياداًن جامعاً للثمار من عصور ما قبل التاريخ، من آسيا الوسطى وصولاً إلى أوروبا الغربية.
وتتمثل أول نتيجة توصلوا إليها في أنّ الحضارة الكرافيتية التي كانت سائدة في القارة الأوروبية قبل 31 إلى 23 ألف سنة، عُنيت بها مجموعتان من السكان لا مجموعة واحدة كما كان يعتقد بعض العلماء.
وتشكل الحضارة الكرافيتية ثقافة تعود إلى ما قبل التاريخ، وتتميّز بإنتاج أدوات من الأحجار. وخلفت هذه الثقافة الحضارة الأورينياسية التي تزامنت مع انتشار الإنسان العاقل في القارة الأوروبية.
هل نتج التجانس الثقافي للحضارة الكرافيتية من شبكات تواصل أو تبادلات ثقافية بين مختلف السكان أو نجم عن امتداد لمجموعات السكان نفسها؟
فقد خلص معدّو الدراسة، وهم علماء من جامعة توبنغن ومتحف سينكينبرغ ومعهد ماكس بلانك في ألمانيا وجامعة بكين إضافة إلى أكثر من 125 باحثاً عالمياً، إلى أنّ مجموعتين مختلفتين كانتا موجودتين سابقاً في وسط أوروبا وجنوبها من جهة، وفي غرب أوروبا وجنوب غربها من جهة ثانية.
وتتساءل إيزابيل كريفكور، وهي عالمة متخصصة بمستحاثات البشر لدى جامعة بوردو ومشاركة في إعداد الدراسة، "كيف يمكن لثقافة ما أن تنتقل بهذه السرعة إلى مجموعات سكنية من أصول مختلفة؟"، وهو سؤال مهم يذهل الباحثين الذين لم يعثروا حتى اليوم على إجابة واضحة له.
ولعبت مجموعة السكان التي كانت تقيم في غرب اوروبا وجنوب غربها والمُسماة "فورنول" تيمّناً باسم موقع أثري في منطقة لوت (جنوب غرب فرنسا)، دوراً رئيسياً في الاستيطان بأوروبا من خلال تخطي الذروة الجليدية الأخيرة، وهي موجة جليدية امتدت بين 26 إلى 19 سنة في السابق.
ويقول لودوفيتش أورلاندو، وهو عالم أنثروبولوجيا قديمة لدى جامعة بول ساباتييه في تولوز وكتب مقالة مصاحبة للدراسة في مجلة "نيتشر"، إنّ "القسم الأكبر من أوروبا لم يكن مأهولاً لأنّ صفائح جليدية كانت منتشرة فيها".
وشكّل جنوب غرب أوروبا وتحديداً شبه الجزيرة الأيبيرية، ملجأً لأفراد مجموعة "فورنول". وعُثر على إرثهم الجيني خلال مرحلة لاحقة في مجموعات الصيادين- جامعي الثمار المرتبطين بالثقافة المجدلية (انتهت قبل 14 ألف سنة)، بعد فترة طويلة من نهاية الحقبة الجليدية.
وكانت شبه الجزيرة الإيطالية عاجزة عن حماية سكان وسط أوروبا وجنوبها من البرد المميت. وتوصلت الدراسة إلى أنّ هؤلاء السكان يبدو أنهم لم يتركوا نسلاً.
وفي نهاية العصر الجليدي قبل 19 ألف سنة، بدأ أشخاص ربما يتحدرون من البلقان يستوطنون إيطاليا في شكلها الحالي. وأدى هؤلاء دوراً رئيسياً في عملية استيطان أوروبا بفضل حالة مناخية مذهلة سادت قبل 14 ألف سنة.
ونقل بيان لجامعة توبنغن قول يوهانس كراوس، وهو عالم آثار في معهد "ماكس بلانك" وأحد معدي الدراسة "في تلك الحقبة، أن المناخ شهد ارتفاعاً في درجات الحرارة بصورة سريعة وكبيرة، وبدأت الغابات تظهر في القارة الأوروبية".
وجرى تشجيع السكان على ترك ملاجئهم الجليدية في شبه الجزيرة الأيبيرية والإيطالية والتوجه شمالاً، وفق كراوس.
وبدأوا يختلطون قبل توّقف ذلك لفترة دامت ستة آلاف سنة، في وقائع لم تلق أي تفسير، ثم تلت ذلك عملية اختلاط جديدة، يمكن أن تكون مرتبطة، وفق إيزابيل كريفكور بـ"تأثيرات مناخية سُجّلت أو وصول مجموعات سكانية جديدة" هم المزارعون الأوائل المتحدرون من الأناضول قبل نحو 8 آلاف عام.
ومع الموجة الأخيرة من الاستيطان التي سُجّلت قبل خمسة آلاف سنة في سهول أوروبا الشرقية، باتت القارة الأوروبية قائمة جينياً.