لم يمر شهر آذار مرور الكرام على اللبنانيين، فمن البلبلة التي أحدثها قرار الحكومة بعدم الانتقال إلى التوقيت الصيفي وتداعياته التي لم تؤخذ في الحسبان وخاصةً على قطاع التكنولوجيا، إلى إضراب عمال هيئة "أوجيرو" الذي تسبب بانقطاع معظم المناطق اللبنانية عن شبكة الإنترنت، لا يسعنا إلا السؤال: هل سيختار اللبنانيون العيش خارج الشبكة؟
يعرّف موقع "قاموس كامبريدج" مصطلح خارج الشبكة أن يكون المواطن "غير متصل بأي من المرافق الرئيسية مثل الكهرباء، الماء، والإنترنت، ولديه مصادر للطاقة خاصة به. وفي معظم الأحيان يلجأ الناس إلى الخروج من الشبكة إما لرغبتهم في العيش بشكل مستقل عن "النظام" المفروض من الحكومات والدول، وإما لأسباب بيئية ولعيش حياة مستدامة.
المفارقة في الأمر أن اللبنانيين لم يختاروا العيش خارج الشبكة، بل الدولة هي من دفعتهم إلى هكذا قرار.
قطاع الكهرباء:
فشلت السلطات اللبنانية على مدار 30 عاماً في إدارة قطاع الكهرباء، وقد أدت عقود من السياسات غير المستدامة والإهمال السياسي والفساد، إلى انهيار القطاع بالكامل في عام 2021 وسط أزمة اقتصادية حادة، ما ترك البلاد بدون كهرباء لساعات طويلة يومياً.
وقد دفع هذا الانهيار بالعديد من اللبنانيين للبحث عن بدائل بهدف تأمين الكهرباء. ولجأ العديد منهم إلى المولدات، القطاع الذي شهد ازدهاراً ملحوظاً منذ بدء الأزمة. أما البعض الآخر، ففضل الاستثمار بحل أكثر استدامة ولجأ إلى تركيب ألواح الطاقة الشمسية.
وبالرغم من زيادة ساعات التغذية في الآونة الأخيرة، إلا أن العديد من اللبنانيين فقدوا الأمل في قطاع الكهرباء في البلاد، وأصبحوا مستقلين كلياً عن شبكة الدولة.
وتجدر الإشارة إلى أنه وفقاً لتقرير صادر عن صندوق النقد الدولي، يشكل قطاع الكهرباء ما يقرب من نصف الدين العام للبنان البالغ 85 مليار دولار بسبب دعم الحكومة المتواصل لشركة كهرباء لبنان منذ سنوات.
قطاع المياه:
يعرف لبنان بأنه بلدٌ غني بالمياه. ومع ذلك، فإن نظرة فاحصة على قطاع المياه في لبنان تُظهر حقيقة مختلفة، إذ يواجه هذا القطاع مشكلة خطيرة من حيث إدارة الموارد والحوكمة وعدم القدرة على توفير حتى الخدمات الأساسية.
ووفقاً لتقرير صادر عن الـ"يونيسف"، لم يتمكن مقدمو الخدمات في هذا القطاع العام من توفير المياه الكافية لعملائهم نتيجةً لأزمة الكهرباء، إضافة إلى عدم قدرتهم على تحمل تكاليف قطع الغيار والصيانة والديزل، وسط تضخم متصاعد في الكلفة. ومنذ بداية الأزمة، انخفضت إمدادات المياه من المؤسسات المائية الأربع بشكلٍ كبير، وغالباً ما كانت تصل إلى أقل من 35 لتراً للفرد في اليوم، والتي تعتبر الحد الأدنى للكمية المقبولة.
وتعتمد العديد من المنازل على خدمة نقل المياه بالشاحنات ومقدمي الخدمات من القطاع الخاص. بالإضافة إلى ذلك، تلجأ معظم الأسر اللبنانية إلى شراء المياه المعبأة لتلبية احتياجاتهم من مياه الشفة، بسبب مخاوف بشأن جودة مياه الصنبور.
كل ذلك وسط فوضى السدود في لبنان، فالحكومة اللبنانية أنشأت سدوداً غير مدروسة ودون خلفية هندسية وبكلفة خيالية "بهدف حماية الثروة المائية" في البلاد، لينتهي أمرها بالفشل الذريع.
قطاع الإنترنت:
القطاع الذي كان صامداً إلى حدٍ ما في ظل هذه الأزمة، بلغ حد الانهيار مع نهاية شهر آذار، وسط التفلت الذي يشهده هذا القطاع من مقدمي الخدمات غير الشرعيين. وقد شهد الأسبوع الأخير من آذار انقطاع معظم اللبنانيين عن الشبكة لحوالي الأسبوع وذلك بسبب إضراب عمال هيئة "أوجيرو".
تلك الأزمة دفعت باللبنانيين للتفكير بطرق بديلة لتأمين الإنترنت دون الحاجة للجوء إلى المرافق الحكومية.
هذا الأمر، دفع العديد منهم للتساؤل لماذا لا تتواجد سبل أخرى لتأمين هذه الخدمة، مع العلم أن العديد من الشركات العالمية أصبحت تؤمن هذه الخدمة عبر الأقمار الاصصناعية، وأبرزها "ستارلينك".
وبحسب موقع الشركة: "نظام "ستارلينك" هو مجموعة أقمار اصطناعية تهدف لتوفير تغطية إنترنت عالمية. هذا النظام مناسب بشكل مثالي للمناطق الريفية والمعزولة جغرافياً حيث الاتصال بالإنترنت غير موثوق أو غير موجود".
وفي حديثٍ مع مدير عام هيئة "أوجيرو"، عماد كريدية، ذكر أن الدولة اللبنانية تجري محادثات مع شركة "ستارلينك" لدراسة إمكانية إدخال الخدمة إلى البلاد دون إهدار المال العام. وأضاف كريدية إن الشركة "لا تملك أقماراً صناعية فوق المنطقة حتى الآن".
وأوضح لـ "النهار" أن هذه الخدمة ستكون متوفرة للميسورين مادياً فقط، إذ أن كلفة المعدات تصل إلى 500 دولار والاشتراك الشهري يتراوح بين الـ 90 والـ 110 دولارات.
في المحصلة يمكن القول إن اللبنانيين خرجوا مكرهين من تغطية شبكة الدولة اللبنانية، فلم يجدوا حلاً إلا السعي لسد الثغرة التي خلفتها دولتهم. ولم يتبقّ سوى خدمة الإنترنت دون أن يجدوا لها بديلاً.
وفي هذا السياق، يؤكد مهندس الاتصالات والمعلوماتية، سلوم الدحداح، أن "أوجيرو" ليست مسؤولة عن تأمين الكهرباء لتوفير الإنترنت، وأكد أن الشبكة ليست مجهزة للعمل بشكل متقطع، وإذا لم تتوفر الطاقة لتشغيلها بشكل مستمر قد يؤدي ذلك إلى أعطال عديدة في الأجهزة.
ويضيف الدحداح: "المشكلة الثالثة تكمن في أجور موظفي الشركة التي لا تزال على سعر صرف 3900 ليرة، فالعديد منهم قرروا مغادرة البلاد بحثاً عن ظروفٍ معيشية أفضل، ويكمن الحل في تصحيح أجورهم".
وختم حديثه قائلاً: "تعليق عمال "أوجيرو" الإضراب يشكل جزءاً من الحل، فقد عدنا للاتصال بالشبكة ولكن هذا الشيء وحده ليس كافياً، ويجب إيجاد حل لمشكلة أجور الموظفين".
نحن نعاني في هذا البلد من غيابٍ مستمر للدولة، ونسعى بشكل دائم لإيجاد حلول ذاتية لتأمين أدنى مقومات الحياة، فيبقى السؤال الأساسي، في ظل غياب الدولة وخروج الشعب تدريجياً خارج نطاق تغطية الشبكة، فهل تبقى من حاجةٍ لها؟