وسط الآلهة والأساطير اليونانية، قلّة أولئك الذين كسبوا احترام اليونانيّين القدماء أكثر من آرتميس، إلهة الصيد والعفة والقمر؛ ابنة زيوس والأخت التوأم لأبولو. اشتُهِرت بتعهّدها بعدم الزواج أبداً، وحوّلت أكتيون مختلس النّظر إلى أيل، وسلّطت كلاب الصيد الخاصّة به عليه. عُرِفت آرتميس كرمز نسويّ لآلاف السنين، فكان من المنطقي أن تسمّي وكالة "ناسا" مهمّة القمر باسمها، وهي مهمّة ستشهد وصول أوّل امرأة، وأوّل شخص ذي بشرة ملوّنة إلى القمر، كـ"أوّل مستعمرة بشريّة خارج كوكب الأرض".
في الواقع، قامت وكالة "ناسا" بتسمية مهمّاتها على اسم ذرية زيوس منذ ظهور رحلات الفضاء. كان هناك برنامج "ميركيري" (الهجاء الروماني لهيرميس) في العام 1958، ثم "الجوزاء" في العام 1968، تلاه "أبولو" في العام 1973، فـ"آرتميس" في العام 2017.
وبالعمل مع وكالة الفضاء الأوروبيّة، ووكالة استكشاف الفضاء اليابانيّة، ووكالة الفضاء الكنديّة، وعدد كبير من الشركات الخاصّة، تهدف "ناسا" من مهمّة "آرتميس" إلى إعادة تأسيس موطئ قدم بشريّة على سطح القمر لأول مرّة منذ العام 1972 والبقاء هناك.
تعمل "ناسا" على بناء تحالف مع قطاع الفضاء الخاصّ والدول والأوساط الأكاديميّة التي ستساعد على الوصول إلى القمر بسرعة، وبشكل مستدام. وقال مدير "ناسا" السابق جيم بريدنشتاين في العام 2020: "عملُنا لتحفيز اقتصاد الفضاء الأميركي مع الجمهور جعل الشراكات الخاصّة ممكنة أكثر من أيّ وقت مضى".
وتابع: "في إطار برنامج "آرتميس"، ستستكشف البشرية مناطق على القمر لم تزرها من قبل، وتوحّد الناس حول المجهول الذي لم يسبق له مثيل".
وكما نشأت الإلهة آرتميس من الأساطير السابقة للهيلينستية، وُلد برنامج "آرتميس" من رماد برنامج "كونستيلايشن" السابق في أوائل القرن الحادي والعشرين، الذي سعى للهبوط على القمر بحلول العام 2020. وفي العام 2010، أعلن الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما أنه ألغى مهمّة "كونستيلايشن"، ودعا إلى تامين تمويل إضافي بقيمة 6 مليارات دولار، بالإضافة إلى تطوير برنامج جديد لصواريخ الرفع الثقيل لوضع البشر على المريخ منتصف الثلاثينيّات. من هنا بدأت "ناسا" رسمياً بتطوير نظام الإطلاق الفضائي لأقوى صاروخ بنته الوكالة حتى الآن.
تمّ دعم برنامج "آرتميس" بشكل أكبر في كانون الأول 2017، عندما وقّع الرئيس السابق دونالد ترامب على توجيه سياسة الفضاء لصالح مشروع "يوفّر برنامجاً متكاملاً بقيادة الولايات المتحدة مع شركاء من القطاع الخاصّ من أجل عودة البشر إلى القمر، تليها بعثات إلى المريخ وما بعده".
الآن، يُشير الخبراء إلى إمكانية أن تضع "ناسا" الناس على سطح القمر، إلّا أنّها تعمل على إبقائهم هناك أحياء؛ فالقمر، على الرغم من كلّ فوائده المحفّزة للمدّ والجزر هنا على الأرض، غير مؤهّل عموماً للعيش، مع افتقاده إلى الغلاف الجويّ الذي يمنح البشر القدرة على التنفس، في الوقت الذي يفتقر كذلك إلى الماء السائل، والجاذبية القوية، فيما تقلّبات درجات الحرارة هائلة، وغباره حادّ. لذلك، سيحتاج المستعمرون الأوائل إلى الطاقة والحرارة والغلاف الجويّ والمياه الصالحة للشرب، وكلّها يجب أن يتم إحضارها من الأرض أو إنشاء تقنيات لاستخراجها محليّاً.
على هذا النحو، تُقسّم مهمّة "آرتميس" بين مهمّات نظام الإطلاق الفضائيّ، ومهمّات الدعم. يتضمّن ذلك المركبات الآليّة، نظام الهبوط البشري، بالإضافة إلى مكونات القاعدة القمريّة و"Gateway" (بوابة القمر)، بالإضافة إلى كلّ الدّعم اللوجستي والبنية التحتية التي سوف تتطلّبها.
مهمّات نظام الإطلاق الفضائيّ لـ"آرتميس"
بُنيت مهمات نظام الإطلاق الفضائيّ حول نظام استكشاف الفضاء العميق الجديد التابع لـ"ناسا"، ويتألف من مركبة الإطلاق الفائقة "نظام الإطلاق الفضائيّ، ومركبة "أوريون" الفضائية وأنظمة استكشاف الأرض في مركز كينيدي للفضاء.
نظام استكشاف الفضاء العميق
يُعدّ نظام الإطلاق الفضائي أقوى صاروخ صنعته البشرية. وبالنظر إلى تصميمه المعياري القابل للتطوّر، من المرجّح أن يستمرّ في المستقبل المنظور. سيُعتمد الصاروخ في عدّة مراحل إطلاق، كلّ منها له تكوينه ومهمّته. يتألّف تكوينه الأوّلي المسمّى "بلوك 1" من المرحلة الأساسيّة فقط بأربعة محركات "RS-25"، واثنين من معزّزات الصواريخ الصّلبة بخمسة أجزاء. بمجرّد أن يكسر نظام الإطلاق الغلاف الجويّ تبدأ مرحلة الدفع المبرّدة الموقتة الخاصّة به للدّفع به إلى الفضاء.
ستنتج المرحلة الأساسية 8,8 ملايين رطل من الدّفع لتكون قادرة على دفع 27 طناً من الأغراض إلى القمر بسرعات تزيد عن 39400 كيلومتر في الساعة.
سيشمل تكوين بلوك 1B "مرحلة استكشاف عليا"، صنعتها "بوينغ"، وتتكون من "أربعة محركات "RL10C-3". وبحسب "ناسا"، سيمكن لهذا المحرك الإضافيّ أن يسحب 38 طناً من البضائع. ستوفّر هذه الكتلة المحدّثة لـ"ناسا" مزيداً من المرونة في عمليات إطلاقها. ويُمكن اعتماد صاروخ 1B لرفع المركبة الفضائية "أوريون" أو حمولات البضائع إلى الفضاء بنفس سهولة نقل الشحنات الكبيرة إلى القمر أو المريخ.
سيكون الشكل النهائي لـ"نظام الإطلاق الفضائي" هو بلوك 2، الذي يصل ارتفاعه إلى أكثر من 30 طابقاً، ويزن ما يعادل 10 طائرات 747 بحمولة كاملة، وسيعطي بلوك 2 9,2 ملايين رطل من الدّفع لحمل 46 طنّاً إلى الفضاء السحيق. بمجرد أن يصبح هذا التكوين جاهزاً، تتوقع "ناسا" أن تتحمّل الكثير من الدّفع الثقيل في توصيل الطواقم والبضائع إلى القمر.
المركبة الفضائية أوريون
كانت المركبة الفضائية "أوريون" أول كبسولة مصمّمة لاستكشاف الفضاء منذ أكثر من جيل، وستكون على رأس صاروخ "نظام الإطلاق الفضائي". صُمّمت "أوريون" بمساعدة وكالة الفضاء الأوروبية، وهي تشغل مقصورة طاقم من أربعة أشخاص ووحدة خدمات تحتوي على جميع أنظمة دعم الحياة المهمّة والملاحة والدّفع ونظام إحباط الإطلاق، الذي سيُخرج بالقوة كبسولة الطاقم من مركبة الإطلاق الأكبر في حالة حدوث عطل كارثي أثناء الإقلاع.
أنظمة الاستكشاف الأرضيّة
تقع في مركز كينيدي للفضاء في فلوريدا، وتعمل لتطوير وتشغيل المرافق والعمليات اللازمة لإجراء مهمّات "نظام الإطلاق الفضائيّ". تتضمّن الأنظمة مبنى تجميع المركبات، ومركز التحكّم بالإطلاق، وغرف الإطلاق، وقاذفات الأجهزة المحمولة، وناقلات الصواريخ إلى منصّات الإطلاق، وكذلك منصّات الإطلاق.
بعثات دعم "آرتميس"
قد تحتاج "ناسا" عدّة سنوات في المدار وعلى سطح القمر لبناء الثقة التشغيليّة لإجراء عمل طويل الأمد، ودعم الحياة بعيداً عن الأرض، قبل البدء بأول مهمّة بشرية متعددة السنوات إلى المريخ. ولكن قبل أن تتمكّن من بناء الثقة في قدرتها على البقاء على سطح المريخ، تحتاج إلى بناء الثقة في قدرتها على البقاء على سطح القمر.
ستفعل مهمات دعم "آرتميس" ذلك بالضبط. على سبيل المثال، أطلقت مهمة "كابستون" بنجاح مكعّباً بحجم 55 رطلاً في حزيران لتأكيد حسابات "ناسا" للمسار المداريّ المستقبليّ الأكبر بكثير الخاصّ ببوابة القمر "Gateway". وأثناء وجودها في المدار، ستتواصل "كابستون" وتنسّق بعض مناوراتها مع مركبة الاستطلاع المداريّة القمريّة التي تدور حول القمر منذ العام 2009.
تخطّط "ناسا" أيضاً لإطلاق المركبة الروبوتية "فايبر" في 2023 إلى القطب الجنوبي للقمر، حيث ستبحث في أدنى وأعمق وأبرد الفوهات للحصول على جليد مائيّ يُمكن الوصول إليه. إن العثور على مصدر للماء له أهمية قصوى لتأمين استمراريّة المستعمرة على المدى الطويل.
في الفضاء، الماء ليس فقط للشرب والاستحمام، بل يمكن تقسيمه إلى ذرات واستخدامه لتزويد الصواريخ بالوقود؛ فمن المحتمل أن يصبح القمر محطة وقود مداريّة للمساعدة على الابتعاد أكثر عن الأرض.
لم تؤكّد "ناسا" حتى منتصف التسعينيّات وجود جليد مائيّ على القمر. وقبل عامين فقط، اكتشفت الجليد الذي يمكن الوصول إليه على سطح القمر. وقال بول هيرتز مدير قسم الفيزياء الفلكية في مديرية المهمات العلمية في مقرّ "ناسا" في ذلك الوقت: "كانت لدينا مؤشرات على أن الماء المألوف الذي نعرفه قد يكون موجوداً على الجانب المضاء بنور الشمس من القمر. الآن نحن نعلم أنّه موجود. يتحدّى هذا الاكتشاف فهمنا لسطح القمر".
"بوابة القمر"
بالإضافة إلى المحطّة على السّطح، تخطط "ناسا" لوضع محطة فضاء كاملة، يُطلق عليها اسم بوابة القمر، في مدار حول القمر، حيث تخدم مثل محطة الفضاء الدولية اليوم. سيتمكّن من خلالها الباحثون من الوصول إلى مرافق البحث وأجهزة التحكّم من بعد بالمركبات الجوّالة.
ستكون البوابة عمليّة دوليّة إلى حدّ كبير؛ فبحسب "ناسا"، توفّر وكالة الفضاء الكندية "روبوتات متقدّمة" لاستخدامها في المحطة، وتوفّر وكالة الفضاء الأوروبيّة وحدات اتصالات، وستطلق الوكالة اليابانيّة مكوّنات إضافيّة وتساعد على إعادة الإمداد اللوجستي.
نظام الهبوط البشريّ والمركبات الجوّالة
من البوابة، سينطلق رواد الفضاء والباحثون إلى سطح القمر لجمع العيّنات، وإجراء التجارب، وإجراء الملاحظات على متن نظام الهبوط البشري، (هو برنامج هبوط على سطح القمر يمكن إعادة استخدامه، ويتم تشغيله حالياً من مركز مارشال لرحلات الفضاء في ألاباما).
اختارت "ناسا" مركبة "ستارشيب" من "سبايس إكس" لنظام الهبوط الأوّليّ في نيسان 2021، ومُنحت الشركة 2,9 مليار دولار لمواصلة تطوير المركبة. ثمّ منحت 1,15 مليار دولار الشهر الماضي. ستساعد الأموال الإضافية على تمويل الترقيات المخطط لها للمركبة الفضائية.
لن يكتفي الباحثون بالسفر لما يقرب من 400 ألف كيلومتر لمجرد الهبوط على القمر والنظر إلى نوافذ المسبار، بل سيتجوّلون حول السطح المختبئ بأمان بوساطة معدات السير في الفضاء التي توفرها شركة "Axiom" و"Collins Aerospace".
هؤلاء الباحثون لن يتجوّلوا على الأقدام فقط، بل ستستخدم بعثات "آرتميس" مركبات التضاريس القمرية الجديدة، التي لا تزال قيد التطوير حالياً. لكن ناسا تتوقع أن تكون جاهزة بحلول العام المقبل.