باتت جرذان جامعة ريتشموند الأميركية جزءاً من مشروع يستكشف مساهمة عملية الإثراء البيئي في صوغ الدماغ، ما من شأنه المساعدة على المدى الطويل في حل مشكلات الصحة الذهنية لدى البشر.
على مضمار سباق، يمضي الجرذ "بلاك تايل" بضع ثوانٍ في شمّ المكان، قبل وضع قوائمه على رافعة والقيادة بأقصى سرعة... وعند وصوله إلى وجهته، يلتهم حلوى مستحقة له بعد الجهد.
وتقول مديرة مختبر علم الأعصاب السلوكي في جامعة ريتشموند، كيلي لامبرت إن هذه التجربة "تلفت انتباه الناس إلى الذكاء والقدرة على التعلم لدى هذه الحيوانات".
وتعتبر لامبرت أن أحد أعظم إخفاقات الطب الحديث يتمثل في عدم قدرته على علاج الأمراض العقلية بمساعدة الأدوية، على الرغم من أن شركات الأدوية تجني أرباحاً في هذا المجال.
وأصبحت هذه المقاربات الدوائية موضع تساؤل في شكل متزايد، بعد نشر دراسة كبرى في تموز الماضي تشكك في النظرية القائلة إن اختلال التوازن الكيميائي، لا سيما نقص السيروتونين، من شأنه أن يسبب الاكتئاب.
ترى كيلي لامبرت أن العلاج السلوكي يشكل مفتاح علاج العقل، ومن هنا جاءت الدراسة على الثدييات الصغيرة.
وتقول إن "أدمغتنا تتغير من الرحم إلى اللحد"، موضحة أن التمتع بحياة نشطة، بطريقة أو بأخرى، يمكن أن يؤثر على احتمال الإصابة بالاكتئاب.
في تجربة سابقة، قُسم الجرذان إلى مجموعة أولى تضم قوارض عليها بذل جهد للحصول على مكافأة - في هذه الحالة الحفر في كومة من التربة- و مجموعة أخرى ضابطة كانت تحصل الجرذان فيها على مكافآت من دون مقابل.
في مواجهة المهمات المجهدة، صمدت مجموعة الجرذان الأولى لفترة أطول من تلك التي كُيّفت للبقاء في حالة يسمّيها العلماء "العجز المكتسب".
وعندما اضطُرت إلى السباحة، كان لدى جرذان المجموعة الأولى رد فعل هرموني يشير إلى مرونة عاطفية أكبر.
وأظهرت الجرذان التي تعلمت القيادة أيضا تماسكاً عاطفيا أكبر ومستويات منخفضة من التوتر، ما قد يكون مرتبطاً بالرضا عن تعلم مهارات جديدة، وفق كيلي لامبرت.
وتقول الباحثة أوليفيا هاردينغ إن هذه الحيوانات "تصنع مسارات في الطبيعة تسلكها طوال الوقت، وأردنا معرفة ما إذا كانت قادرة على الحفاظ على حسّ تحديد الاتجاه الممتاز هذا داخل مركبة".
ولم يكن التعلم سهلاً: فقد تعيّن على الفئران أولاً أن تشغّل أدوات التحكم بواسطة النقر بخطمها، قبل أن يكتشف العلماء أنها تفضّل الوقوف على قوائمها الخلفية واستخدام القائمين الأماميين للقيادة.
حتى عندما كانت المركبة في وضع غير اعتيادي، تمكنت القوارض من توجيهها بالطريقة الصحيحة والحصول على الحلوى، وهو دليل على القدرة الإدراكية المتقدمة لديها.
وأظهر الجرذان في هذه التجربة المدعوّان "الذيل الأسود" و "الذيل متعدد الألوان"، قدرة على "الاستباق" من خلال التململ عند وصول البشر والإسراع في محاولة لتسلق جدران الأقفاص.
تماماً مثل البشر، ليست لكل الفئران الاهتمامات نفسها: فبينما يبدو أن البعض يستمتع بالقيادة بنفسه، يفعل البعض الآخر ذلك فقط من أجل المكافآت، ومجموعة ثالثة لا تهتم بالموضوع حتى.
لطالما تجاهل العلماء إناث الفئران، إذ يعتقدون أن الدورة الشهرية التي تستغرق أربعة أيام لديها يمكن أن تغير نتائج البحث، وبالتالي حرموا أنفسهم من المعرفة المتعمقة عنها.
هذه الظاهرة عملت كيلي لامبرت على مكافحتها في تجاربها الخاصة، فيما باتت الشروط الفدرالية لتلقي الأموال لإجراء البحوث في الولايات المتحدة، تشجع على الاقتداء بمثالها.
وأدركت مديرة مختبر علم الأعصاب السلوكي في وقت مبكر من حياتها المهنية أن دراسة الفئران التي تعيش في أقفاص "من دون إثراء" بيئي، أي من دون سباقات العوائق أو الأنشطة، لم يكن لها اهتمام كبير، مثل دراسة البشر المحجورين والمعزولين.
على سبيل المثال، كانت الفئران التي تمت تربيتها في أقفاص من دون إثراء بيئي، أكثر نجاحاً في قيادة السيارة من غيرها.
وخلص أحدث بحوثها الى أن الفئران البرية لديها أدمغة أكبر من جرذان المختبر، وعدد أكبر من الخلايا العصبية، وطحال أكبر لمكافحة الأمراض في شكل أفضل، ومستويات ضغط أعلى بكثير.
الأمر الذي يقودنا إلى سؤال فلسفي: هل نحن أقرب إلى جرذان المختبر، أو إلى تلك المحبوسة داخل أقفاص مع إثراء بيئي، أو تلك التي تعيش في البرية؟
تجيب كيلي لامبرت ضاحكة "أشعر أني أقرب قليلاً إلى الجرذ الموجود في المختبر منه إلى الجرذ البري".