النهار

الذكاء الاصطناعي سيف ذو حدّين
الذكاء الاصطناعي.
A+   A-
وسيم غضبان
مدير عالمي للابتكارات والهندسة الرقميّة
 

لربما سيأتي يوم في المستقبل القريب نرى فيه هذه اللحظات عنوانًا لمفترق الطرق في تاريخ البشرية. نحن لن نتحدّث عن تأثير العملة الرقميّة، أو الحرب العالميّة الثالثة، أو الاصطفافات الجديدة، أو الاحتباس الحراري وجائحة كورونا، أو الغذاء العالمي وأمن الطاقّة، إنّما نتحدّث عن التغيير الجذري في حياتنا اليوميّة بسبب الذكاء الاصطناعي.

تطوّرت البشريّة والحضارات عبر العصور من خلال الابتكارات وتطوُّر الذكاء البشري وتعدّد الثقافات. فقد تنوّع تصنيف الذكاء البشري في مختلف الأزمنة، فكانت القدرة على تحليل المعضلات وتفسيرها من دلالات الذكاء، وكانت الحاجة أمّ الابتكارات. ووُصِفَ الأشخاص، الّذين يتمتّعون بقوّة الذاكرة وإجراء الحسابات العقليّة، بالأذكياء، وسريعو البديهة بأصحاب الحنكة، وكثيرو الاطّلاع والمعرفة بالمثقّفين، والخطباء بالأكثر تأثيرًا على المجتمعات وتحريك الثورات والسياسات.

الذكاء الاصطناعي اليوم يتفوّق على كل هؤلاء بأضعاف، بل يعتمد على كلّ أفكارهم وابتكاراتهم وثقافاتهم وقدراتهم ليختصرها بشخصه. ما كنّا نراه خيالًا علميًّا أصبح اليوم حقيقة، بل هو موجود منذ فترة، لكنّ القليل منه أصبح معروفًا للعامّة ومتاحًا للجميع. إنّه بلا شكّ أعظم ابتكار بشريّ في العصر الحديث.

قد يرى البعض هذا المقال مثيرًا للقلق، وآخرون يرونه حقيقة تجب معرفتها، وآخرون لا يأبهون أو ليس ليدهم أيّة فكرة عمّا نتحدّث، لكنّ الهدف هو التسلّح بالمعرفة الضروريّة للازدهار وتطوير الأعمال والخبرات لمواجهة تحدّيات المستقبل.
 

ما هو الذكاء الاصطناعي؟
 
يشير الذكاء الاصطناعيّ إلى قدرة الآلات على أداء المهام الّتي تتطلّب عادةً ذكاءً بشريًّا، مثل التعلّم والاستدلال والإدراك واتّخاذ القرار. تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي الخوارزميّات والنماذج الإحصائيّة لتحليل البيانات وتحديد الأنماط ومعرفة التنبّؤات أو اتّخاذ القرارات بناءً على هذا التحليل. هناك عدّة أنواع مختلفة من الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الأنظمة المستندة إلى القواعد والتعلّم الآليّ والتعلّم العميق، ولكلّ منها قدرات وتطبيقات مختلفة.

الأكثر شهرة ما ظهر حديثًا وفي متناول الجميع عبر تطبيقات مثل "شات جي بي تي" وغيرها، والّتي لديها القدرة على إنتاج النصوص والتحليل والصور وإعادة تركيب الأصوات وتحليلات الدماغ البشري. كلّ ما كُتِب وقيل ونُشِر استُخْدِم لابتكار الذكاء الاصطناعي التوريدي الّذي يزيد من قدرته في كلّ مرّة يتمّ استخدامه. إنّها القدرة الخلّاقة على التعلّم وتحسين الأداء التلقائي.

تفوّق الذكاء الاصطناعي على عباقرة العالم خلال عدّة تجارب منها قيادة السيارات والطائرات ولعب الشطرنج، ولكن ما يزال هناك بعض الإخفاقات لهذا الذكاء وهو غير قادر على نسخ المشاعر الإنسانيّة.

في المستقبل القريب، لن نستطيع التمييز بين ما هو حقيقي مادّي وما هو من صناعة الذكاء الاصطناعي. سنتحدّث مثلًا بالهاتف مع أشخاص نتوهّم أنّهم حقيقيّون. في محادثات الفيديو أيضًا، لن نتمكّن من تمييز حقيقة الصورة والصوت واللهجة وطريقة حديث الّذين نراهم ونسمعهم. لن نستطيع تمييز من يقدّم نشرة الأخبار أو من أعدّ النشرة.

حقائق عن الذكاء الاصطناعي:

كثرت التحليلات والمواقف بين مشجّع ومعارض للتكنولوجيا الرقميّة وغير مكترث، وبين مبالغ لغايات إعلاميّة ومتحفّظ. الحقيقة أنّنا دخلنا في مرحلة جديدة ومختلفة. هناك من يرى خطرًا على مستقبل البشريّة، ومن يرى الذكاء الاصطناعي من ابتكار الإنسان وتحت سيطرته، ومن يطالب بوضع قوانين فوريّة لاستخدامه قبل فوات الأوان.

لطالما كانت الابتكارات البشريّة موضع جدال. فمنذ ابتكار الطاقة النوويّة لا تزال القدرة الجبّارة موضوع نقاش. بعض الدول تستخدم الطاقة النوويّة لإنتاج الطاقة النظيفة، والأخرى للنفوذ العسكري، والبعض يطالب بنزع هذه التكنولوجيا. أمّا ابتكار الآلة الحاسبة، فقد عارضه البعض في حينها لاعتبارها خطرًا على وظائف التعليم.

التكنولوجيا الرقميّة اليوم تُشكل عنصرًا أساسيًّا للابتكار والتطوّر في كافّة المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، بل في السياسة والحوكمة. وهي العمود الفقري لنجاح الثورة الصناعيّة الرابعة على مراحلها. يؤدّي الذكاء الاصطناعي دورًا مهمًّا في التقدّم الطبي وتحسين أداء الأعمال. وهناك الكثير ممّا عجز الطبّ التقليدي عن فهمه، فتمّ تشخيصه بالذكاء الاصطناعي. تجد الأكثريّة صعوبة في تحديد القدرة المتسارعة، حتّى الأشخاص الّذين شاركوا في صناعة الذكاء الاصطناعيّ عجزوا عن تفسير بعض سلوكيّاته.

تتسابق الشركات العالميّة اليوم على خلق تطبيقات للذكاء الاصطناعي للتميّز وتحسين خدماتها ومواكبة التقدّم، بينما تسعى الدول الكبرى إلى تجيير البيانات لتحسين خوارزميّاتها الرقميّة الّتي هي الذهب الرقميّ المتجدّد.

الأجهزة الّتي تدعم الذكاء الاصطناعي موجودة في كلّ مكان. ما يقارب من 77 في المئة من الأجهزة اليوم تستخدم تقنيّة الذكاء الاصطناعي بشكل أو بآخر، ومنها الهواتف الذكيّة والسيارات الحديثة. أشارت دراسة إلى أنّ 24 في المئة فقط يدركون أنّ معظم أجهزتهم تعمل بالذكاء الاصطناعي!

يشهد سوق الذكاء الاصطناعي العالميّ ازدهارًا واسعًا، وسيصل إلى 190.61 مليار دولار بحلول عام 2025. وبحلول عام 2030، سيضيف الذكاء الاصطناعي 15.7 تريليون دولار إلى الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، ممّا يزيده بنسبة 14 في المئة. تُشير التوقّعات إلى أنّه سيكون هناك 8.4 مليارات وحدة مساعدة صوتيّة رقميّة تعمل بالذكاء الاصطناعي في العالم بحلول عام 2024، وهو ما يتجاوز إجمالي سكّان العالم.

سيكون باستطاعة كلّ شخص منّا تشخيص حالته النفسيّة والمرضيّة من دون الرجوع إلى طبيب، وذلك من خلال تحليل بيانات هاتفنا الذكيّ. سيفوق عدد مساعدي الذكاء الاصطناعي عدد الأشخاص في هذا العالم. لكلّ منّا سيكون مساعد رقميّ يعتمد على الذكاء الاصطناعيّ لإتمام مهامه.

ماذا عن مستقبل العمل؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ المستقبل مختلف على كافة الصعد. قد يتطلّب هذا التطّور إعادة هيكلة الأنظمة، وتعريف التعليم، وكيفيّة العمل، وتحديد المهام والقدرات. ستختفي وظائف وتظهر أخرى، ممّا سيتطلّب تحديث المسمّى الوظيفي لأغلبيّة الأعمال. على الطلّاب المتحمّسين لمتابعة المسارات الوظيفيّة المحفّزة التفكير في استهداف التخصّصات الناشئة مثل الهندسة الرقميّة والذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات. ويُعَدّ دمج المعرفة الرقميّة في المهارات المهنيّة أمرًا بالغ الأهميّة. هناك العديد من الوظائف الّتي سيتمّ تطويرها بوساطة الذكاء الاصطناعي، فيجب أن نبقى بعيدين قدر المستطاع عن الوظائف ذات المهام المتكرّرة. مهارات المستقبل ستركّز على الذكاء العاطفي والإبداع وحلّ المشكلات عبر التخطيط الاستراتيجي المبنيّ على البيانات الرقميّة. إنّ سوق العمل كما نعرفه اليوم يتطوّر بسرعة، والمستقبل يَعِد بأن يكون مميّزًا.

تعمل الشركات العالميّة اليوم على إنشاء الحلول الرقميّة لتعزيز السّلامة وتحسين الكفاءة والتكلفة المثلى، وهناك العديد من الأرواح الّتي تمّ إنقاذها من خلال تحليلات الذكاء الاصطناعي في مناطق المخاطر. على سبيل المثال، نحن في صناعة الطاقة، نعمل على زيادة القدرات البشريّة بوساطة الذكاء الاصطناعي، ونحن بحاجة إلى الذكاء الاصطناعي والمهندسين ذوي الخبرة الرقميّة لتحسين سلامة وكفاءة واستدامة صناعة النفط والغاز. إنّنا نستخدمه حاليًّا في عمليّات التنقيب والحفر والهندسة وإدارة المشاريع والتحكّم من بعد والتنبّؤ بالصيانات المطلوبة. وتتشابه هذه الحاجة في مختلف الصناعات. ويعتمد نموذج التوأم الرقمي ثماني الأبعاد، الّذي طَوَّرْتُه، واعتُمِد على نطاق واسع في قطاع الطاقة، على الذكاء الاصطناعي لتحقيق العمليّات التلقائيّة والعمليّات من بُعد. بصفتي عضوًا في لجنة الذكاء الاصطناعي والرقمي لمنتدى الطاقة العالمي "أديبك"، نشارك الحلول الرقميّة الرائعة للذكاء الاصطناعي المستخدمة لتعزيز الإنشاءات الهندسيّة والعمليّات، ونلتمس حاجة الشركات العالميّة إلى الاستعانة بموظّفين مبتكرين لتزدهر في مسيرتها الابتكاريّة.

باختصار

تزيد ابتكارات الإنسان يومًا بعد يوم؛ ومع هذا التطوّر تتعاظم قدرته على فهم وإدراك أسرار الطبيعة الكونيّة والبشريّة. لكن هذه القدرة لا يجب أن يفوقها ما هو من صنع الإنسان نفسه.

نحن بحاجة إلى التطوّر. نحن بحاجة إلى الذكاء الاصطناعي من غير الاعتماد الكلّي عليه. لا ينبغي أن يكون الهدف هو استبدال البشر بالذكاء الاصطناعي، إنّما زيادة القدرات البشريّة بوساطته. ولا يجب تصوّر الذكاء الاصطناعيّ على أنّه الآلة الّتي ستسيطر على البشريّة، إنّما أداة لتطوّرها.

من الضروري وضع ضوابط لاستخدام الذكاء الاصطناعي. أنا لا أوافق التحليلات حول قدرته الحالية في السيطرة على البشريّة، لكنّني أوافق الرأي بأنّه نوويّ آخر متجدّد، يجب أن يوضع في أيادٍ أمينة، وضمن ضوابط محدّدة. فمثلًا: كلّ منّا لديه سيارته الخاصّة الّتي يمكنها أن تتسارع وتحقّق سرعة فائقة، ولكنّنا نادرًا ما نستخدم هذه السرعة الكاملة؛ نحن دائمًا نتبع قواعد الطرق لدينا والسرعة المحدّدة للوصول بأمان إلى وجهتنا. ويمكن فقط لمن لديه رخصة قيادة سارية الاستفادة من أداة النقل هذه. هكذا يجب أن يكون الأمر بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي.

الخطر الحقيقي هو خطر السيطرة على الفكر البشري. أشدّد على أنّ مواكبة التطوّر لا يجب أن تكون على حساب القيم الانسانيّة والاجتماعيّة. من الأهميّة بمكان أن نفكّر في الهدف من حياتنا، وأن ننظر في مسؤوليّاتنا تجاه كوكب الأرض والأجيال المقبلة. يجب أن يكون تركيزنا موجّهًا نحو تمكين البشريّة والطبيعة من الازدهار في وئام. في عصر التقدّم التكنولوجي السريع، حيث يعمل الذكاء الاصطناعي على تغيير عالمنا، يجب علينا تبنّي ممارسات مستدامة في كل جانب من جوانب حياتنا. نحن بحاجة إلى إدراك أن كلّ اختراع يجب أن تكون له الاستدامة في جوهره، مع ضمان ألّا تضرّ أفعالنا بالتوازن الدقيق للطبيعة والإنسانيّة. دعونا لا ننسى أنّنا نخلق طريقًا ليتبعه أطفالنا، ومن مسؤوليّتنا أن نترك وراءنا كوكبًا صحيًّا ومزدهرًا ليرثوه.

هذا المقال كتب من دون الاستعانة بالذكاء الاصطناعي للمحافظة على إيصال الفكرة الّتي أرادها الكاتب. إنّه يعبّر عن رأيه فقط بكلّ تجرّد، ولا يعبّر عن وجهة نظر الشركة أو اللجان العلميّة الّتي ينتمي إليها.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium