يقف الفلّاح جبار الفتلاوي في حقله مراقباً المضخات الضخمة وهي تحفر بئراً في الأرض، باتت بالنسبة إليه الملاذ الأخير لريّ محاصيله وإرواء ماشيته، وسط الجفاف الذي يخيّم على العراق، لكن تلك الآبار تهدد بنفاد المياه الجوفية في البلاد.
ويمرّ العراق بموسم جفاف هو الأسوأ منذ 92 عاماً، مع انحسار في الأمطار ومناسيب الأنهار، لذلك تكثّف حفر الآبار واستخراج المياه الجوفية من الأرض، ليجد المزارعون ما يروون به محاصيلهم.
يروي الفلّاح جبار، المزارع "أبا عن جد"، أنه يزرع منذ سنوات عدة الأرزّ والحنطة في حقله في محافظة النجف في جنوب العراق. لكن الرجل الذي لفّ رأسه بكوفية والبالغ من العمر 54 عاماً، يؤكد أن هذه السنة مختلفة، لأنه "لا توجد مياه".
لذلك، تسجّل جبار عند السلطات المحلية ودفع أموالاً لحفر بئر تسمح له بريّ "أشجارنا ونخلاتنا وإرواء الماشية"، كما يشرح هذا الأب لخمسة أولاد والذي يزرع أيضاً الفجل والبصل والشبت.
قرب منزله في قريته المطلة على نهر الفرات في قضاء المشخاب، كانت آلة حفر البئر تغرز في الأرض وتخرج مياهاً موحلة.
لجأ جبار في الماضي إلى حفر آبار بالطريقة التقليدية، والتي تحذّر السلطات منها. ويقول "أحياناً كانت تخرج المياه مرة أو مالحة" منها.
وفيما العراق "معرض لسنة جافة أخرى"، أعلنت وزارة الموارد المائية العراقية عن خطة لاستخدام المياه الجوفية في 6 محافظات "لأغراض الزراعة"، من بينها النجف في تشرين الأول الجاري.
لكن، شدّدت على ضرورة احترام ضوابط في الاستهلاك لعدم "استنزاف" الخزين وتعرضه إلى "هبوط كبير في شكل سريع".
وخلال النصف الأول من 2022، حفرت حوالى 500 بئر. لكن بهدف منع استغلال المياه الجوفية في شكل متزايد، تمنع السلطات حفر الآبار بطرق غير قانونية.
ويشير تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا)، إلى أنه على الرغم من أن العراق وضع قوانين تنظّم عملية حفر آبار جديدة لأهداف زراعية، إلا أن "البلاد لا تستخدم نظام تعرفة للحدّ من استخدام المياه الجوفية".
ويتحدث التقرير الذي نشر في أيلول الماضي، عن غياب مبادرات "لتشجيع استخدام وسائل الري الحديثة".
ويلجأ غالبية المزارعين في العراق إلى وسائل تقليدية في الري، عبر غمر أراضيهم تماماً بالمياه، لكن ذلك يتسبب بهدر في المياه في وقت تحتاج فيه البلاد إلى ترشيد استهلاكها.
يشرح المدير العام للهيئة العامة للمياه الجوفية- فرع النجف، جميل الأسدي أن غالبية الآبار حفرت خصوصاً في "المناطق الزراعية التي كانت تروى سابقاً عن طريق جداول الأنهار".
ومن أجل تشجيع المزارعين على اللجوء إلى السلطات لحفر الآبار بدل القيام بذلك في شكل غير قانوني، خفضت وزارة الموارد المائية إلى النصف، تعرفة الحفر، كما يقول.
لكن في المقابل، اشترطت على الفلاحين "استخدام طرق الري الحديثة لغرض الحفاظ على المخزون الاستراتيجي للمياه الجوفية".
ويمكن استخدام مياه الآبار هذه في "إرواء الحيوانات وسقي البساتين والمزارع"، وفق الأسدي. لكنها لا تصلح لسقي محاصيل الأرزّ والحنطة، نظراً لارتفاع نسبة الملوحة فيها.
في عمق الصحراء في بادية النجف التي تبعد حوالى 30 كيلومتراً عن مركز المحافظة، لا أنهر تروي المكان، ولذلك اعتاد المزارع حسين بديوي على حفر الآبار لري محاصيله من الشعير والأعلاف لأغنامه منذ عقود على غرار ما يفعل جيرانه.
لكنها اليوم لم تعد كافية ولذلك دفع الرجل أموالاً للسلطات لحفر بئر أكثر عمقاً.
ويقول الرجل الذي تبلغ مساحة أرضه 200 دونم "سابقاً، كنا نحفر الآبار بعمق 50 متراً وكنا نحصل على كميات كبيرة من المياه، لكن اليوم نحفر حتى مئة متر، و110 أمتار في الأرض، لكي نحصل على المياه".
ويضيف "كانت البئر الواحدة تسقي الكثير، الآن كثرت الآبار، وجفت المياه... أصبحت قليلة".
وحذّرت وزارة الموارد المائية في تموز الماضي من أن "الاستخدام الجائر للمياه الجوفية أدى إلى مشاكل كثيرة"، مشدّدةً على ضرورة "الحفاظ على هذه الثروة".
وعلى سبيل المثال، جفّت بحيرة ساوة في جنوب العراق هذه السنة خصوصاً بسبب حفر حوالى ألف بئر عشوائياً ما تسبب بتجفيف المياه الجوفية التي كانت تغذيها.
كذلك، حذرت الوزارة من تحدٍّ آخر، إذ "في حالة سحب كميات كبيرة من المياه الجوفية ستزداد نسبة الملوحة".