النهار

إعادة ابتكار التعليم في ظل تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي
المصدر: "النهار"
إعادة ابتكار التعليم في ظل تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي
تعبيرية.
A+   A-
غسان مراد
 
لا يمكن إنكار أنّ موضوع التعليم هو دائم التغيير والتعديل، وهذا ليس بجديدٍ نسبياً! فمع كلّ تغيير يجب إعادة ابتكار استراتيجيات التعليم. ولكن بات من الضروري أخذ القرار بالتعديل المنهجي في التعليم قبل فوات الأوان، لكي لا يصيبنا ما أصابنا خلال جائحة كورونا، إذ إنّنا لم نكن مستعدّين (أساتذة ومتعلّمين وإداريين) للتعليم عن بعد، ما أدّى إلى تخبّط في آلية التعليم حتى أصبح التعليم عن بعد بعيداً عن التعليم، فبتنا بحاجة لإعادة النظر في السلطة التربوية.
بشكلٍ عام، لا يزال تأثير الذكاء الاصطناعي على التعليم غير واضح المعالم. ولكن من المهم أن نكون على دراية بالمخاطر وبالحسنات المحتملة حتى نتمكن من تخفيفها والتأكد من استخدام الذكاء الاصطناعي بشكلٍ مثمر.
 
المخاوف الناجمة عن التطور الرقمي متعدّدة، أهمها أولاً، الانتحال العلمي والسرقة الأدبية القائمة على النسخ واللصق؛ ثانياً، الضمور الفكري الشامل الناتج عن هذه الممارسات. فلا يمكن أن يتطوّر الدماغ البشري من دون "هضم" المعرفة.
الحظر سيكون غير مجدٍ. فالتقنيات موجودة وستبقى، وعلينا التعامل معها على أنّها تشكّل حيزاً اساسياً من حياتنا. لذلك على المعلمين، بدلاً من التوجه عكس التطورات، أن يتأقلموا معرفياً ويجرّبوا ما يمكن لهذه التطبيقات التوليدية الموسومة "بالذكية" أن تنتج ولكن بحذر، مع إيجاد طرق لاستخدامها لتعزيز دروسهم، ومع وضع مبادئ توجيهية للاستفادة من البرمجيات المساعدة في عملية التعليم. فالبرامج التوليدية كتشات "جي بي تي" يمكن أن تكون بوابة تقنية فاعلة إذا ما جرى تكييفها لتكون سليمة تربوياً، وإذا تمّت بإشرافٍ واضح، ستصبح هذه النماذج اللغوية التوليدية ثورية تربوياً بشكلٍ إيجابي. ولكن يمكن إساءة استخدامها أيضاً.
 
ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد المعلمين، أولاً في وضع خطط للدروس بناءً على احتياجات الطلاب، وهذا سيوفر وقتاً وجهداً من الممكن استخدامهما للتفاعل المباشر مع المتعلمين. كما يمكنهم الاستعانة بالتطبيقات لإنشاء طرق للتقييم مصمّمة لكلّ طالب بناءً على وضعه ومستواه. أخيراً، يوفّر استخدام البرمجيات لتقييم الطلاب على المعلم وقتاً يركز فيه على مهام أخرى.
 
إنّ فتح الباب أمام الذكاء الاصطناعي في التعليم ضروري دون تقويض أهم ميزات التعلّم البشري، ما يعنيه في الواقع أن يصبح المتعلّم ضليعاً في فهم العلوم، ما يساعد الطلاب على النقد، وعلى عدم تقبل المعلومات من غير استيعابٍ لما يقال ولما ينتج آلياً. لذلك يجب تعليم الصغار والكبار كيفية الاستمتاع بالمعرفة، الذي لا يمكن أن يحصل دون فهمٍ لها. كما يجب محاكاة ما يفهمه الطلاب حسب سلوكهم الذهني الرقمي الحالي الذي تشرّبوه من التقنيات بما يناسب تقبلهم للمعلومات وأساليب فهمها. فالتعبير البصري مثلاً عند الطلاب أصبح شائعاً ويشكّل جزءاً من هويتهم الرقمية. فعلى الرغم من أنّ النص أساسي في التعليم ويُرتَكز عليه في مقاربة العلوم كافةً، فالصور المرئية هي أيضاً فرصةً للتعلّم. فإلى جانب العمل المكتوب، يستطيع الطلاب الارتكاز على الصور ومقاطع الفيديو التي يجري إنشاؤها بواسطة البرامج التوليدية المدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل دال-إي أو ميدجورني.
 
أما السماح للذكاء الاصطناعي بالبحث عن المعلومات بشكلٍ ميكانيكي قد يؤدي إلى فقدان خاصية التعلم، وانخفاض في مهارات القراءة والكتابة والحساب التي تعتبر أساسية في عملية اكتساب المعرفة. كل ذلك مع عدم التخلي عن فرض الكتابة، لأنه يساعد على تعلم التفكير. والأهم من كل ذلك، إدخال مقررات البرمجة من المراحل الابتدائية لأنّ المستقبل لمن يجيد البرمجة والخوارزميات. والأهم من كل ذلك، إدخال مواد تعليمية جديدة تتعلق بما يسمى هندسة الطلب (prompt engineering) التي أصبحت ضرورية لكي نحصل من تطبيقات المحادثة على إجابات مفيدة ومحدّدة للسؤال ومثمرة معرفياً في نتائجها، فبحسب التجربة، إنّ طريقة طرح السؤال لهذه التطبيقات له أثرٌ كبير على جودة النتائج.
 
استطراداً، تعتبر الدقة أحد التحديات الرئيسة مع الذكاء الاصطناعي التوليدي. فمن المعروف أنّ النماذج اللغوية "تهلوس"، بمعنى أنّها تختلق الحقائق والمصادر والمراجع بطرق لا يمكن دائماً التنبؤ بها. هذه الهلوسات تأتي من جراء تأثير "الصندوق الأسود"، لأنه من غير الواضح كيف يتوصل الذكاء الاصطناعي إلى استنتاجاته. فالتكنولوجيا يمكن أن تطرح قضية عدالة ومساواة، كما يمكن أن تطرح قضايا مسيئة! فهناك دلائل على التحيّز في النص المكتوب آلياً، بما في ذلك التحيّز الجندري والتمييز على أساس العرق والتحزّب السياسي وغيرها من الأمور المستخلصة من مجموعة بيانات على الشبكة، التي تشمل منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل "ريدت" ويوتيوب وتيك توك، التي استخدمتها الشركات لتدريب أنظمتها.
 
أمّا في التعليم العالي خاصة، فيشكل ظهور نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي فرصة من خلال الطريقة التي يتعلم بها الطلاب ويؤدي الباحثون عملهم. إذ توفر هذه التقنيات فرصًا جديدة لتجارب التعلم الشخصية وزيادة الكفاءة في البحث وتحسين النتائج التعليمية. ومع ذلك، فإن تحقيق توازن بين تسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي والحفاظ على العنصر البشري في التعليم أمر ضروري.
من خلال الاستفادة من قوة الذكاء الاصطناعي كأداة دعم ومعالجة المخاوف الأخلاقية، يمكن للتعليم العالي احتضان الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي مع الحفاظ على مبادئه الأساسية المتمثلة في جودة التدريس والتفكير النقدي والتنمية الفردية. لذلك ستضطر الجامعات (والمدارس أيضاً) عاجلاً أم أجلاً إلى إعادة التفكير بشكل أساسي في كيفية إجراء الاختبارات التعليمية والأكاديمية على حد سواء.
 
إنّ إحدى أهم الصعوبات التي كانت تواجه التعليم عن بعد والتي كانت تشكل عقبة أمامه هي مسألة التقييم من خلال طرح أسئلة بلغة طبيعية خلال فترة الامتحانات، وليس كما يحصل عادة عبر نظام خيارات الإجابة الصحيحة من عدة إجابات (QCM)... التطبيقات التوليدية باتت مؤهلة ـ نسبياً- لتحل هذه المعضلة، شرط أن يكون الأستاذ على معرفة بآليات عمل التطبيقات.
كما سيكون من الضروري الرجوع إلى التقييم الشفهي المباشر بين المعلم والمتعلم، على أن تكون المقررات قد جرت بما يتناسب مع هذه الطرق والاستراتيجيات التعليمية.
 
يعد تأثير الذكاء الاصطناعي على التعليم قضية معقدة ومتعددة الأوجه. ليس هناك شك في أن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على توسيع إمكانيات التعلم. ومع ذلك، هناك أيضًا خطر أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تضييق المنظور وتقليل الإبداع والفكر. نحن بحاجة إلى التأكد من عدم استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لإنشاء "غرف صدى" حيث يتعرض الأشخاص فقط للمعلومات التي تؤكد معتقداتهم الحالية.
كل ذلك، يتطلب إعادة تفكير التعليم من جديد، وقبل فوات الأوان، وبناء مفاهيم جديدة تتناسب مع هذا التغيير في النهج والمنهج وفي طرق التعليم ومحتواه وعرضه بما يتلاءم مع التغيرات التقنية الرقمية التي أثرت على حياتنا على المستويات كافة.

اقرأ في النهار Premium