تبيّن أن القدرة على التحمّل، وهي ميزة يتفرد بها البشر، وفّرت لهم خلال العصر الحجري القديم وسيلة إضافية لاصطياد الطرائد، وفقًا لدراسة استخدمت عدداً كبيراً من الروايات الإثنوغرافية التي كانت إلى اليوم متجاهَلَة.
وتزخر كتب التاريخ بالرسوم التوضيحية التي تُظهِر مجموعة من الرجال يكمنون للطريدة، يمسكون أوتاداً، ويتقدمون ببطء نحو الفريسة، أو ينتظرونها حول فخ.
لكنّ علماء الإثنوغرافيا رصدوا في بعض الروايات العائدة إلى القرن العشرين طريقة أخرى، وهي ما يُسمّى الصيد بالمثابرة، ويقوم على ملاحقة الطريدة حتى إنهاكها، وهي التقنية المعتمدة إلى اليوم في الصيد بواسطة كلاب الصيد.
الدراسة
لكنّ الباحثين كانوا يعتبرون أن الاستعانة بهذه التقنية كان هامشياً ومحدوداً، على ما لاحظ أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة ترينت الكندية أوجين موران، وهو المُعدّ الأول للدراسة التي نُشرت الإثنين في مجلة "نيتشر هيومن بيهايفيور".
وأوضح موران لوكالة "فرانس برس" أنّه وَجَدَ خلال تفحّصه وثائق عرقية وتاريخية تعود إلى القرنين الخامس عشر والتاسع عشر الكثير من حالات الصيد التي تنطبق عليها مواصفات الصيد بالمثابرة".
وظهرت هذه الفرضية قبل 40 عاماً من خلال دراسة أجراها عالم الحيوان الأميركي ديفيد آر كارير الذي شرح أن التطور وفّر على الأرجح خاصية حاسمة لأسلاف الإنسان، هي القدرة غير العادية على التعرق، وبالتالي على تبديد الحرارة الناتجة عن بذل الجهد البدني.
"القرد المتعرّق"
ولهذا "القرد المتعرّق" ميزة أخرى تتمثل في أن طبقة الشعر على جسمه رقيقة جداً مما يجعل العدّاء المشارك في سباق الماراثون مثلاً يتعرق أكثر من ثلاثة لترات من الماء في الساعة.
والبشر عدّاؤون متواضعو السرعة، إذ يستطيعون اجتياز عشرة أمتار في الثانية الواحدة، والحفاظ على هذه الوتيرة لمدة 20 ثانية، في حين أن الفهد يركض أسرع بثلاث مرات لبضع دقائق. لكنّ الفهد، مع أنه "أشبه بسيارة فيراري بدون مبرّد ويستطيع تالياً الركض بسرعة عالية جداً"، بحسب البروفيسور موران، فإنه "عاجز عن تصريف الحرارة" الداخلية.
وهذا الارتفاع في درجة الحرارة الداخلية يجبره في النهاية على التوقف عن الركض، ويدفع حيوانات "الجري" (الخيول أو الأيائل أو الظباء) إلى أخذ قسط من الراحة لتبرد، في حين أن مُطاردها البشري لا يعاني مشكلة من هذا النوع.
وثمة ميزة أخرى لفت إليها علماء الأحياء وهي أن الجهاز العضلي الهيكلي يتكون في شكل أساسي من ألياف بطيئة، تلائم التحمل أكثر مما يُعرف بالألياف السريعة التي توفر الحيوية.
أما العنصر الأخير، فهو أن خصائص الأطراف السفلية للإنسان تحمل على الاعتقاد أن صفات التحمل لدى سلف الإنسان العاقل بدأت بالظهور قبل 1,8 مليون سنة.
ورأى غير المقتنعين بنظرية الصيد بالمثابرة أن تكلفة الطاقة الناجمة عنها غير متناسبة مع تلك المترتبة عن المشي. وقال موران إن "الجري أكثر تكلفة من المشي"، ولكن تُعَوَّض هذه التكلفة إلى حد كبير بالوقت الذي يتم توفيره. وفق ما يبيّن النموذج الحسابي الذي اعتمدته الدراسة.
"الركض من الصباح إلى المساء"
واستندت هذه الدراسة المهمة إلى مجموعة غير مسبوقة من المصادر العرقية والتاريخية.
وشرح موران أن "هذا النوع من الصيد كان معتمداً في كل مكان من العالم (...) وفي السياقات كافة (...) وعلى امتداد أكثر من فصل"، مشيراً إلى وجود نحو 400 رواية تنطبق على أكثر من 270 مكانا في العالم، من القطب الشمالي إلى تشيلي، ومن أفريقيا إلى أوقيانوسيا.
ويروي هنود في نص يعود تاريخه إلى عام 1850، قصصاً عن أسلافهم يصفون فيه "صيد الأيائل عن طريق مطاردتها حتى الإرهاق بأحذية الثلوج"، بحسب ما أشارت إليه الدراسة. وتتناول إحدى روايات القرن السادس عشر طريقة الصيد التي اتبعها الأميركيون الأصليون في كواويتيكانز الذين كانوا يستطيعون "الركض من الصباح إلى المساء" خلف الغزلان "حتى إنهاك الطريدة".
وتتطرق قصة من بورنيو من منتصف القرن التاسع عشر إلى صيادين يستخدمون أساليب مماثلة.
ولم يتنبه علماء الأعراق كثيراً في الماضي إلى هذه الروايات إذ في القرن التاسع عشر، عندما "بدأوا يحترفون" مهنتهم، بحسب موران، أدى انتشار الأسلحة النارية إلى انقراض أسلوب الصيد بالمثابرة تقريباً. ولا تزال هذه الطريقة معتمدة اليوم لدى بعض القبائل في بوتسوانا إذ يستطيع أبناؤها مطاردة الظباء حتى الإنهاك.
وأوضح الباحث أنه تمكن من استخدام "مجموعة من المصادر التاريخية التي لم تسبق دراستها". وبفضل رقمنة الوثائق التي تتولاها مؤسسات عدة، تمكن من استخدام نحو ثمانية آلاف منها، يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر.
ويبقى السؤال قائماً عن دور الصيد بالمثابرة في تشكيل ضغط انتقائي على أسلاف الإنسان، مما جعلهم عدائي مسافات طويلة.