النهار

الذكاء الاصطناعي بين الحقيقة والخيال
المصدر: "النهار"
الذكاء الاصطناعي بين الحقيقة والخيال
الذكاء الاصطناعي.
A+   A-
البروفسور زياد حرّو
مدير مختبر الفيزياء التطبيقية ومنسق الماستر في علوم النانو والمواد الوظيفية في الجامعة اللبنانية
 
لا شكّ أن الذكاء الاصطناعي يغزو التكنولوجيا الحديثة، وأنّ استعماله يأخذ أوجهًا عملية في حياة البشر اليومية، وقد بدأ استخدامه لأمور استراتيجية تخص سياسات الدول ولا سيما المتطورة منها.
‎امام هذا الواقع المستجدّ والمتسارع، يخشى البعض من أن تسيطر الآلات عبر الذكاء الاصطناعي على البشر، وأن يصبح لديها إدراك ذاتي وقدرة على الإحساس.
 
لقد حذّر بعض العلماء، ومنهم ستيفن هاوكنغ، من أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى زوال الجنس البشري، فيما تساءل آخرون عن مستقبل البشر في مواجهة التطور التكنولوجي الحاصل في هذا المجال.
 
‎ ولأنّ الشيء بالشيء يُذكَر، فإنّ مصطلح الذكاء الاصطناعي قد يكون مبالغاً فيه، أو غير دقيق بالحدّ الادنى، ولولا كلمة اصطناعي، التي تلي كلمة الذكاء، لكان التعبير مغلوطـاً من أساسه. فالذكاء هو صفة خاصة بالبشر حصراً، ويمكن تعريفه بأنه قدرة التأقلم مع وضع جديد، كما أن للذكاء أوجهاً عدة، منها فهم الزمان والمكان، واستعمال المنطق الديكارتي، وفهم اللغة والموسيقى، والعلاقة مع الذات ومع الآخر، وفهم العواطف والإبداع. والذكاء مرتبط بصورة كلية بالإدراك الذي يتأتّى من الدماغ البشري، وعلى سبيل المثال، فإن الحواس الخمس، توصل المعلومات بواسطة الجهاز العصبي إلى الدماغ، حيث يتشكـل الإحساس والإدراك وقدرة التأقلم مع مختلف الأوضاع، ويتم اختيار التصرّف المناسب من بين عدد كبير من الخيارات.
لقد أثبتت البحوث العلمية المبنية على التحليل الحسي، أن الحواس والجهاز العصبي ما هي الّا الأدوات الناقلة للإشارة الكهربائية وأن الدماغ وحده هو الذي يعطي معنى للأحاسيس.
 
‎تجدر الاشارة الى أن العقل البشري بدأ بالتطور منذ نحو سبعين ألف عام مع الثورة الإدراكية، مرورًا بالثورة الزراعية منذ نحو إثني عشر ألف عام، وصولا الى الثورة التكنولوجية الحديثة وحتى يومنا.
 
‎وعلى الرغم من التطور التكنولوجي الحاصل، وتقسيم الدماغ إلى أجزاء مسؤولة عن القرارات الآنية وأخرى عن القرارات المتكررة اليومية، فالأكيد أنه لا يوجد حتى الآن مفهوم واحد كامل وشامل لآلية عمل الدماغ، ولا من أين ينبع الإدراك بالتحديد داخل الدماغ. في هذا السياق يقول عالم الرياضيات الشهير والحائز على جائزة نوبل في الفيزياء روجر بنروز إن الإدراك ليس عملية حسابية وإنّ العقل لا يشبه برامج الكمبيوتر.‎ أما الآلات أو البرامج فهي بعيدة كل البعد عن الذكاء البشري وهي تنفذ أوامر الخوارزميات التي يضعها الإنسان تنفيذاً دقيقاً دون أي إدراك لما تفعل. ولنأخذ على سبيل المثال "أيقونة" الذكاء الاصطناعي، ما يسمى بالChatGPT ، ‎يستطيع هذا البرنامج أن يجيب على أي سؤال في مختلف الميادين، كما يستطيع كتابة أطروحات كاملة أو تحديد مواد قانونية مفيدة لموضوع معين. ما ‎يظهر للوهلة الأولى وكأن الآلات أصبحت ذكية، ولكن عندما نفهم كيفية عمل ذاك البرنامج، ندرك أنه يقوم بجمع الكلمات المتشابهة وصفّها الواحدة جنب الأخرى من خلال استخدام خوارزميات ذكية، ولكنّها من صنع العقل البشري، وعند إعطاءه الجواب لا يدرك هذا البرنامج ما كتبه ولا يفهمه، ولكن العقل البشري ‎للسائل هو الذي يعطي معنى للجواب.
 
‎تسعى الشركات الكبرى الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي إلى استخدام مصطلحات شبيهة بتلك المصطلحات المستخدمة لوصف العقل البشري ك deep learning وneural network وذلك لأهداف اقتصادية مباشرة، كجذب الاستثمارات والكتل النقدية لتمويل مشاريعها، لذلك انه من الأجدر بنا أن نفهم كيفية عمل الدماغ قبل الشروع باستنباط خوارزميات لتقليده.
 
إن التمييز الواضح بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، لا يحدّ من خطورة هذا الأخير على الجنس البشري، حيث من الواجب وضع ضوابط واضحة للخوارزميات المتطورة خصوصا لناحية استعمالها للسيطرة او التحكّم بالأسلحة المتطورة. أي أن يتحكم الإنسان في التكنولوجيا وليس العكس، فيسير التفاعل بين الذكاءين، البشرى والاصطناعي، في اتجاه إنساني عقلاني، بالارتكاز الى القيم والقواعد الأخلاقية العابرة للمجتمعات.
يتجلى الخطر الثاني، بسرعة ودقة التنفيذ في مختلف ميادين الحياة اليومية (صناعة السيارات والأبنية والطب والمحاماة والتعليم ..) مما قد يؤدي مع الوقت إلى الاستغناء عن اليد العاملة البشرية، في كثير من ميادين العمل. لذلك يبقى الإبداع الناتج عن العقل، هو الميزة الأساسية التي ينفرد بها الجنس البشري والتي تخوله الحفاظ على عدد من الوظائف في المستقبل.
 
‎يتضّح مما تقدم أن الآلات لا يمكنها أن تتحوّل إلى بشر لأنه ينقصها الإدراك، وهنا نلقي الضوء على الخطر الثالث، وهو تحوّل البشر إلى شبه آلات، إذ انّ كبرى الشركات التكنولوجية تسعى إلى خلق عوالم وهمية رقمية، من مظاهرها على سبيل المثال، اختراع وطرح نظارات متطورة VR يضعها الفرد فيدخل من خلالها إلى عالم وهمي ويعيش حياة أخرى منفصلة عن الواقع، من دون أي اتصال حسّي بشخص بشري آخر!! وهذا سيمنع الإدراك الجماعي ويحدّ من التضامن بين الجنس البشري الذي كان السبب الأساسي لبقائه ولضمان نجاته واستمراره وتقدمه لآلاف السنين. ناهيك عن تأثير هذه العوالم الافتراضية على المشاعر البشرية، حيث تستَغل قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم المشاعر البشرية وأنماط السلوك، للتلاعب بهم لتحقيق أهداف ومكاسب تجارية دون أخذ رفاهية الإنسان ومصالحه، وكرامته بالاعتبار، ما يثير أسئلة أخلاقية مهمة حول دور التكنولوجيا في تشكيل العلاقات والتجارب الإنسانية.
 
‎لا أحد يعلم إن كنا سنعيش في فردوس تكنولوجي في المستقبل، عبر تطويع الذكاء الاصطناعي لخدمة البشر، أم أننا سنفقد خصوصيتنا البشرية، وذكاءنا الاجتماعي الذي هو علة وجودنا، لكنّ الأكيد أن الخطر الأكبر على الجنس البشري هو الجنس البشري نفسه...
يبقى الأمل أن تتغلّب حكمةُ العقل البشري على كل ما عداها، فهي الضمانة الوحيدة لاستمراريتنا.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium