غسان مراد
لعلها مفارقة محمّلة بالدّلالات أن تتقاطع فورة الاهتمام الواسع بالذكاء الاصطناعيّ مع مرور سبعون عاماً على الانتحار الدراماتيكي في السابع من حزيران (يونيو) 1954 للعالِم البريطاني آلان تورينغ، مؤسس الذكاء الاصطناعي الحديث. الأرجح أن ثمة إجماعاً على المكانة التأسيسية لتورينغ الذي ابتكر مفهوم أن الآلات تستطيع أن تمتلك ذكاءً وقد تحاكي ما لدى البشر.
ومنذ سبعة عقود، يذكُر كثيرون تورينغ، ويستحضرون صوراً متنوّعة من انتحاره المؤلم. ومنذ اندلاع فورة الاهتمام بالذكاء الاصطناعي التوليدي في خريف العام 2022، بات حضور ذلك المنتحِر أشدّ قوّة في الحياة اليوميّة. والأرجح أن قلّة من المقالات والنصوص تعالج موضوع الذكاء الاصطناعيّ ولا يُذكر فيها تورينغ.
صُنع آلة اللغز ودحر النازية
قبل 112 عاماً، وُلِد عالِم الرياضيّات البريطانيّ آلان ماثيسون تورينغ،الذي بات أبرز المشاركين في تطور علوم المعلوماتية والكومبيوتر. وبالتالي، أسهم في التطوّر العالمي من ناحية الذكاء البشريّ، عبر إضافة أبعاد جديدة لعمل عقل البشر في الفضاء المتوسّع باستمرار لذكاء الآلات.
في صغره، تميَّز تورينغ في مجال العلوم. ففي الخامسة عشرة من عمره اهتمّ بالفلك والرياضيّات التطبيقية ونظريات الفيزياء الكمومية التي كانت حينها غير معروفة إلا على نطاق ضيِّق.
طرح وقتها تساؤلات عن علاقة العقل بالمادّة، والحريّة والحتميّة. واعتبر بشكل مبكر أنّ فيزياء الميكانيكا الكمومية يجب أن تكون المفتاح لفهم كيفيّة عمل الدماغ والوعي البشريّ. وعلى الرغم من أنَّه تعلّم القراءه خلال شهر، فإن علاماته المدرسيّة لم تكن جيِّدة. في المقابل، اتّجهتْ اهتماماته أكثر نحو الأرقام. وقد فاجأ أساتذته مرّات عدّة بأن حاول التوصّل إلى حلول لمسائل رياضيّة معقّدة.
تميّز آلان تورينغ بأبحاثه الرائدة في عالَم المعلوماتيّة والذكاء الاصطناعي. وفي 1941 وضع أُسس المعلوماتيّة الحاسوبيّة الحديثة، وعُرف لعامّة الشعب في أوروبا، خصوصاً في بريطانيا، بأنّه العالِم الذي حلّ رموز شيفرة الجيش الألمانيّ خلال الحرب العالميّة الثانية. وباستخدام آلة سُميّت "إنيغما" (Enigma) (ترجمتها الحرفية "لغز")، استطاع فكّ شيفرات رسائل سريّة متكرّرة بين الجيش الألمانيّ والغوّاصات البحريّة التي كانت ستفرض آنذاك حصاراً على الجزيرة البريطانيّة.
وتحتفظ جامعة كامبريدج بتفاصيل ذلك الإنجاز العلمي والعسكري الذي أسهم في دحر النازية، خصوصاً أن الجيش الألماني اعتبر أن الآلة التي استخدمها في تركيب الشيفرة غير قابلة للهـزيمة. في ذلك الوقت، كانت المخابرات الإنكليزيّة قد وظّفته في مركز أبحاث أقامته في "بلتشلي بارك" (Bletchley Park).
تورينغ "روح" الكومبيوتر ونيومان "جسده"
في العام 1936 نشر تورينغ مقاله عن أُسس الآلات المبرمجة بالذكاء الاصطناعي التي نستخدمها حاضراً، خصوصاً الكومبيوتر. وقد صمّم "آلة تورينغ"، التي باستطاعتها حلّ أيّ معادلة رياضيّة، وتعتبر أول نموذج للحاسوب. توضيحاً، لا يتعلق الأمر بآلة ملموسة كالكومبيوتر. بالأحرى، إن "آلة تورينغ" تمثّل طريقة في الرياضيات تساعد على فهم المعادلات الرياضية، التي تملك مواصفات تجعلها قابلة للتنفيذ بوساطة الحاسوب، وتسمّى خوارزميّات الكومبيوتر.
بالتالي، أعطت "آلة تورينغ" صورة عن إمكانيّات الحاسوب وقابليّاته وقدراته في تنفيذ العمليّات المطلوبة منه. وعلمياً، تعتبر "آلة تورينغ" نموذجاً رياضيّاً بسيطاً يشكل قوام لغة شكلية، بمعنى أنها تعمل بمعزل عن المضمون، وتستند إلى قواعد رمزيّة ترتكز على التحكّم المتناهي. وبلغة أخرى، إنّ أي برنامج حاسوبيّ هو آلة تورينغ.
تذكيراً، إنّ الصانع الفعليّ للحاسوب، العالِم الأميركي-الهنغاري جون فون نيومن، هو الذي أنتج الهيكليّة المطلوبة لآلة تورينغ التي أدّت إلى تركيب الحاسوب الحديث الذي يسمّى أيضاً "هيكلية فون نيومن".
إذن، صنع تورينغ ذكاء الآلات الذكيّة، ثمّ أعطاها نيومن جسدها المادي الملموس، فظهر الكومبيوتر.
الالتباس بين البشر والآلات
بعد الحرب العالمية الثانية عمل الباحث الرياضيّ على مشاريع تهتمّ بصناعة الحاسوب، وانتقل إلى "جامعة مانشستر" ليطوّر اهتمامه بالذكاء الاصطناعي. وفي العام 1950، أسّس ما يسمّى "اختبار تورينغ" (Turing Test)، الّذي يحدّد طبيعة المجيب عن سؤال ما، سواءٌ أكان إنساناً أم آلةً.
واستطرادًا، نقول إنّه من الصعب الوصول إلى برامج كومبيوتر تعمل بدقّة متناسقة كاملة مئة بالمئة. والحال أن تلك البرامج هي شيفرات متداخلة وضخمة الحجم، ويجب أن تكتب نسخها الأولى على يد بشر، في الأقلّ حتى الآن، ممّا يفرض أنها قابلة للخطأ. وبالتالي، تحتوي برامج الحاسوب بالضرورة على ثغرات، أي أخطاء، تُمكِّن قراصنة الكومبيوتر من الدخول إلى شيفراتها والتلاعب بها، خصوصاً الدخول عبر برامج تخريبية لا تتوافق مع الغاية التطبيقية المنشودة، فتسمّى فيروسات.
وفي خطوة أعمق، نستطيع الإشارة إلى أن برامج الكومبيوتر هي خوارزميات متداخلة صُنِعت لتنفيذ غاية تطبيقية معيّنة. وبصورة مبكرة، رأى تورينغ أنه إذا أردنا اكتشاف وجود برنامج يُخِل بعمل الحاسوب، فيتوجب علينا تشغيل ذلك البرنامج، وتتبع خوارزميّاته، كي نرى ما هي الغاية التي يوصلنا إليها. وإذا لم يتطابق البرنامج المشتبه فيه مع الغاية التطبيقية التي صُنِع البرنامج لتنفيذها، فيكون ضاراً. وبهذه الطريقة، يحدّد تورينغ قصور العمليّات الحاسوبية.