النهار

النهار

الذكاء الاصطناعي في عالم التسويق... غيّر قواعد اللعبة وفرض تحدياتٍ جديدة
سُكينة السمرة
سُكينة السمرة
المصدر: "النهار"
الذكاء الاصطناعي في عالم التسويق... غيّر قواعد اللعبة وفرض تحدياتٍ جديدة
تصميم الذكاء الاصطناعي.
A+   A-

للوهلة الأولى، قد تذهب غالبية الناس إلى الظن بأن الذكاء الاصطناعي اجتاح عالمهم في السنوات الأخيرة، لكنه في الحقيقة  أقدم مّما نتوقع، أقدم بكثير. ففي صيف عام 1956، اجتمع 10 علماء في "كلية دارتموث" في ولاية نيو هامبشاير الأميركية لتبادل الأفكار حول مفهوم جديد سمّاه حينها الأستاذ المساعد جون مكارثي بـ"الذكاء الاصطناعي". في ذلك الوقت، أراد مكارثي وزملاؤه استكشاف فكرة برمجة الآلات لاستخدام اللغة وحل مشاكل الإنسان. فهل يتحقق ذلك على مرآنا الآن؟

 

اليوم، وبعد مرور أكثر من 60 عاماً، يندفع العلماء، ومحلّلو البيانات، والمصممون، وعدد لا يحصى من الآخرين، إلى العمل على ما كان يأمل به أولئك العلماء، بل وأكثر من ذلك. ومن خلال التعلّم العميق، يمكن للشركات تحقيق تقدّم استثنائي في صناعات تتراوح من الأمن السيبراني إلى التسويق.

 

إنها مجرد مسألة معرفة من أين يجب أن تكون البداية وكيفية دمج العمل البشري وإبداع الإنسان مع السرعة التي تقدّمها الآلة، أي الذكاء الاصطناعي، في استراتيجيات مُثمرة، بعدما فتح الذكاء الاصطناعي التوليدي الباب أمام إحداث ثورة في مجال التسويق.

 

وفي هذا الصدد، فإن الشركات التي تستفيد من استخدام الذكاء الاصطناعي ليس لها حدود. ففي مجال الرعاية الصحية مثلاً، يستخدمه المتخصصون لتحليل بيانات المرضى، وشرح نتائج المختبر، وتوفير الوقت على الأطباء. وفي الأمن الرقمي، يساعد الذكاء الاصطناعي الشركات في اكتشاف التهديدات المحتملة، مثل البرامج الضارّة في الوقت الفعلي أو تلخيص البيانات بشكل أسرع. وفي الوقت عينه، يمكن للمسوّقين والعاملين في صناعة التسويق من مصممين ومحرري فيديو وكتّاب محتوى وغيرهم، استخدام الذكاء الاصطناعي لتجميع البيانات مثلاً وتحديد الجمهور الرئيسي، ورؤى الأداء وإنشاء التصاميم عبر برامج مختصة، ضمن كثير من المهام التي برز الذكاء الاصطناعي فيها كلاعب يغيّر معالم الصناعة، دافعاً بالشركات لتكون أكثر استراتيجية وإبداعًا في حملاتها التسويقية. فكيف أعاد الذكاء الاصطناعي تشكيل مجال التسويق؟

 

الذكاء الاصطناعي في عصر البيانات الضخمة

 

بدايةً، لنتفق أن للذكاء الاصطناعي التوليدي إمكانية للفهم والتعلّم والتفسير والتفكير "آلياً". يكمن الفارق في أن الذكاء الاصطناعي يمكنه القيام بكل هذه الأشياء بشكل أسرع وعلى نطاق أوسع بكثير من الإنسان، وبعد دعمه بالبيانات اللازمة طبعاً.

 

وبحسب مارك سيمبسون، من شركة "أي بي إم واتسون ماركتينغ" IBM Watson Marketing: "في عصر البيانات الضخمة، نحتاج إلى استخراج كل هذه المعلومات، ولم يعد البشر قادرين على القيام بذلك بمفردهم". وأضاف، "الذكاء الاصطناعي يتمتع بالقدرة على إنشاء تجارب رقمية أكثر ثراءً وتخصيصًا للمستهلكين، وتلبية توقعات العملاء المتزايدة بشأن العلامات التجارية."

 

وفي هذا الإطار، يشكل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة محوراً أساسياً اليوم، إذ يستخدما في تحليل كميات هائلة من البيانات واستخراج رؤى قيّمة تساعد في اتخاذ القرارات. وتعتبر البيانات الوقود الذي يدفع تطور عملية صنع القرار في الذكاء الاصطناعي. ويتمّ تحليل هذه البيانات للحصول على معلومات ورؤى يمكن استخدامها لتحسين الأداء والكفاءة وزيادة الإيرادات والأرباح. وحتّى برامج الذكاء الاصطناعي نفسها، تعتمد على كميات كبيرة من البيانات لتعلم وتحسين النماذج الذكية.

 

 

فهم أفضل للمستهلك في الأسواق

 

هناك شيء آخر يجيده الذكاء الاصطناعي، هو تحسين العلاقة بين الشركات والمستهلكين. وأشار بريان سوليس الخبير في التحول الرقمي وتجربة العملاء، في وقت سابق، إلى أنه "حتى في نسخته الأولى، ساعد الذكاء الاصطناعي الشركات في فهم أفضل لكيفية التعامل مع البشر". وتكمن المفارقة وفقاً لسوليس، في "أن الأمر يتطلّب هذه التكنولوجيا المتقدّمة للغاية لجعلهم يفكّرون بشكل مختلف حول كيفية التواصل مع عملائهم". واعتبر سوليس أنه على مدار الخمسين عامًا الماضية، أدّت التطورات إلى فتح هوة بين الشركات وإشراك العملاء، لكن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على سدّ هذه الفجوة.

 

ومن خلال منتجات وأدوات تحليلية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، بات بإمكان المسوقين تصور تجربة العميل وما يمرّ به من مراحل قبل شراء الخدمة أو المنتج وبعد، وتحديد المناطق التي قد يواجه فيها المستهلكون احتكاكات. وبالتالي تحصل الشركات على رؤية أكثر وضوحاً عن تجربة العميل، ومن ثم العمل بعد ذلك على تحسين مشاركة العملاء وسير عمل الشركات في آن واحد.

 

واستناداً إلى ذلك، فإن أولئك الذين يدركون كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي ضمن مهامهم التسويقية، سيمتلكون ميزة تنافسية لم تكن موجودة من قبل، بل يمكن القول إنهم سيكونون رواد المرحلة المقبلة في هذه الصناعة.

 

تجربة إعلانية أكثر تخصيصاً

 

من خلال مساعدة المسوقين على جمع البيانات وتحديد فئات العملاء وإنشاء نظام تسويق وتحليلات أكثر عمقاً، يمكن للذكاء الاصطناعي توسيع نطاق تخصيص العملاء ودقتهم بطرق لم تكن موجودة من قبل. إذ ان ربط بيانات العملاء من مصادر مثل مواقع الويب ووسائل التواصل الاجتماعي يُمكّن الشركات من صياغة رسائل تسويقية أكثر صلة باحتياجات المستهلكين الحالية والفصل في ما بينهم. وبالتالي، يمكن للذكاء الاصطناعي تقديم تجربة إعلانية أكثر تخصيصاً لكل مستخدم، والتأثير على قرارات الشراء، وبناء علاقة مع العلامة التجارية للشركات.

 

 

أتمتة المهام التسويقية

 

في هذا الخصوص، يُمكن للذكاء الاصطناعي بالفعل أتمتة عدد من المهام التسويقية المتكرّرة، مثل إدارة البريد الإلكتروني وكتابة الإعلانات وخدمة العملاء وتحسين محركات البحث (SEO)، ما يُوفّر الوقت على المسوقين للتركيز على المهام الإبداعية والاستراتيجية.

 

وكذلك ساهم الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في أتمتة المهام التسويقية من خلال التخطيط للمشاريع وتحديد الأنماط  وإنشاء جداول زمنية دقيقة وتخصيص الموارد وغير ذلك. وتسمح أدوات الذكاء الاصطناعي بمراقبة تقدّم المشروع وتحديد الاخفاقات، ما يمكّن الشركات من اتخاذ قرارات سريعة، وبالتالي تحقيق مستويات أعلى من الأداء والابتكار.

 

المساهمة في إنشاء المحتوى

 

قد تكون من أكثر المجالات التي ساهم في رسمها من جديد، بعدما أحدث ثورة حقيقية في إنشاء المحتوى في عالم التسويق بطرق عديدة، من توليد النصوص إلى إنشاء الصور والفيديوات. وظهر ذلك جلياً مع لجوء المسوقين لاستخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء نصوص تسويقية مثل الإعلانات، وصف المنتجات، والمقالات التي تتماشى مع خطة المحتوى. كما برز الذكاء الاصطناعي كلاعب مهم في عملية توليد صور وتصاميم جذابة تتناسب مع المحتوى. وكذلك إنشاء مقاطع الفيديو الترويجية بجودة عالية وبتكلفة أقل.

 

تأثيرات إيجابية على إنتاجية السوق

 

مع ظهور الذكاء الاصطناعي، برزت تأثيراته إيجابياً على إنتاجية السوق الاقتصادية العالمية. وبهذا الخصوص، أشار تقرير نشره "معهد ماكينزي" في عام 2023 إلى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يضيف ما يصل إلى 4.4 تريليونات دولار إلى الإنتاجية العالمية سنوياً. كذلك يوضح التقرير أن قطاعات مثل التسويق والمبيعات تُعتبر من بين أكبر القطاعات المستفيدة. ويُتوقع أن يستحوذ القطاعان المذكوران على نحو 75 في المئة.

 

وفي ما يخص مجال التسويق تحديداً، يتوقع الخبراء أن يرتفع الإنتاج بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي بنسبة تتراوح بين 5 في المئة و15 في المئة من إجمالي النفقات التسويقية، ما يعادل نحو 463 مليار دولار سنوياً.

 

 

خلاصة، وصل عالم التسويق إلى مرحلة تحوّل جذري مع الذكاء الاصطناعي التوليدي، من خلال أتمتة وإحداث تغيير واضح في طريقة العمل. والأرجح أن يمهد ذلك الطريق أمام عصر جديد من القدرات بين أيدي المسوقين.  وبعدما باتت الشركات قادرة على إطلاق حملات تسويقية خلال فترة قصيرة، وبميزانيات أقل؛ أصبح التحدّي أمامها أكبر وكذلك الوقت، لتكون أكثر إبداعاً وتميزاً مع الذكاء الاصطناعي. وبالتالي، يتوجب على الشركات التي تسعى إلى تحقيق التميز في العمل على تطوير حلول مخصصة ومميزة لعملائها، من خلال تعديل نماذج الذكاء الاصطناعي المتاحة، لكي تصبح متوافقة مع بياناتها ومحددة المهام.

 

وأثناء مرحلة تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، يتوجب على الشركات الالتفات إلى ضرورة وضع إجراءات للحدّ من المخاطر التي قد تنجم عن استخدام هذه الأدوات. يشمل ذلك ظاهرة "هذيان الآلات"، أي إنتاج بيانات غير دقيقة أو مُضلّلة، إلى جانب أوجه التحيّز وانتهاكات خصوصية البيانات ومخالفات حقوق النشر، من بين العديد من المخاطر المرافقة. وعلى خط موازٍ، تسير الشركات بسرعة نحو استكشاف الفرص المتاحة في استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، وبالتالي، من الضروري التذكير بوجوب التأكّد من توافق ذلك مع أهدافها الاستراتيجية التسويقية.  فهل تتخيّلون الإبداع الذي قد يصل إليه الإنسان إذا أدرك كيف يضع يده بيد الذكاء الاصطناعي التوليدي؟