في العام 2019، سُجِّلَتْ سابقة أولى عالمياً، حينما تناقلت وسائل الإعلام عرض فريق في "غوغل" بقيادة جون مارتينيس، كومبيوتر كمومياً يستطيع أن ينجز في ثوانٍ عملية حوسبية قد تستغرق أوقاتاً مديدة على جهاز حاسوب كلاسيكي.
وفي (مارس) آذار 2024، دُشّن أول كمبيوتر كمومي تجاري سُلِّم إلى شركة خاصة في الاتحاد الأوروبي في مقر شركة "أو في إتش كلاود" OVHcloud الذي يضمّ مركزاً ضخماً للبيانات. وأوضحت الشركة أنها تعتزم وضع ثورة الحوسبة الكمومية في خدمة المجتمع المدني.
إذاً، ما هو الكومبيوتر الكمومي؟ ما هي نظم الحوسبة المتعلقة به؟ وما هي الآفاق التي يمكن تلمّسها مع انتقال صناعة الحاسوب الكمومي من الأطر الاختبارية (وربما العسكرية) إلى الانتاج التجاري الموسع؟
الكمبيوتر الكمومي ومفهوم "التشابك"
يمثل الكمبيوتر الكمومي مجالاً مثيراً للاهتمام والبحث في تكنولوجيا المعلوماتية. ويُعتبر تقنية مبتكرة لتنفيذ الحسابات بطرق تفوق الكمبيوترات التقليدية بكثير، بل إن سرعته تفوق التصور.
وباختصار، تعتمد الحوسبة التقليدية على وحدة الـ"بِت" Bit في التعامل مع المعلومات، ويشبه ذلك مثلاً القول بأن الذرة هي المكوّن الأساسي للمادة. وفي المقابل، تعتمد الحوسبة الكمومية على وحدات "كيوبِت" Qubits. وفيما يُعتبر أن الـ"بت" تتعامل مع وحدة بيانات مفردة، تتعامل الـ"كيوبت" مع مجموعة ضخمة من البيانات في الوقت نفسه.
وتفصيلاً، ترتبط مجموعة كبيرة من تلك البيانات بواسطة ما يُسمّى "التشابك" Entanglement في الفيزياء الكمومية، ما يعني أنها تتحرّك سوية في اللحظة نفسها، وإذا جرى التأثير على أي واحدة منها، لنقل عبر تطبيق خوارزمية معينة عليها، تتأثر البقية بالطريقة نفسها وفي اللحظة نفسها.
تخيّل مثلاً أن هناك من يحاول أن يخترق كومبيوترك في بيروت، سيتأثر في اللحظة نفسها حاسوب "متشابك" معك في نيويورك، وقد ينهض لصدّ ذلك الاختراق.
الكمومي يمكنه أن يكون في حالة ترابط غير معتادة تسمّى "الترابط الكمومي"، ما يتيح للكمبيوتر الكمومي أداء عمليات موازية بفعالية للغاية.
"الكيوبتات" في أجهزة الكمبيوتر الكمومية
إذاً، في أجهزة الكمبيوتر العادية، الوحدة الأساسية للمعلومات "البت"، والتي يمكن أن توجد في إحدى الحالتين: 0 أو 1، تُستخدم لمعالجة المعلومات وتخزينها، وتتعامل الخوارزميات مع هذه "البتات" لإجراء العمليات الحسابية بطبيعة الحال.
أما من الجهة المقابلة، تستخدم أجهزة الكمبيوتر الكمومية "الكيوبتات" التي يمكن أن توجد في حالات متراكبة، ما يعني أن الـ"كيوبت" يمكن أن يمثل كلاً من 0 و 1 في نفس الوقت. وهذا ما يتيح لأجهزة الكمبيوتر الكمومية إجراء حسابات متعدّدة في وقت واحد، ما يزيد بشكل كبير من قدرتها على معالجة المهمّات المنوطة بها.
الصورة الكبرى للكومبيوتر الكمومي؟
بالاستناد إلى الحوسبة الكمومية، استطاعت شركة صيدلانية خفض وقت البحث عن الأدوية المبتكرة أضعافاً مضاعفة. وكذلك الحال بالنسبة إلى تعزيز خط مسارات التطوير، وخفض عدد سلاسل الإمداد المقفلة، وتوفير العلاجات في السوق بسرعة هائلة. وتصبّ تلك التطورات في مصلحة الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم.
وعلى خطٍ موازٍ، استطاعت شركة للخدمات اللوجستية أن تدير مسارات أسطولها المكون من آلاف الشاحنات، بشكل فائق الديناميكية. وتمكنت من أن تأخذ مجموعة متنوعة من المتغيرات في الاعتبار، والتكيّف بسرعة مع ظهور الفرص أو القيود.
وإضافة إلى ذلك، تمكنت الشركة من إيصال المنتجات الطازجة إلى رفوف المخازن بفترة زمنية أسرع، ومنع أطنان من انبعاثات الكربون كل عام.
ولعلّ الأمثلة السابقة توضح كيف تستطيع الحوسبة الكمومية تبديل الرؤى والاستراتيجيات وغيرها، بطرق فعلية تتحقق على الأرض. والأرجح أيضاً أن الميزات الكبيرة للحوسبة الكمومية تشكّل الدافع الذي حفّز شركات التكنولوجيا والمستثمرين من القطاع الخاص والعام من حكومات ومؤسسات، يستثمرون بلايين الدولارات في الشركات الناشئة الكمية.
وإذا أصبحت الحوسبة الكمية متاحة للعامة، فقد تُحدث تغييرات جذرية في العديد من المجالات. في الطب مثلاً، ستساهم في تسريع اكتشاف الأدوية وتطوير العلاجات.
وفي الاقتصاد، يتوقع الخبراء أن تحسّن تلك التقنية صنع نماذج محاكاة افتراضية عن الأسواق وإدارة المخاطر. أما في الأمن السيبراني، ستؤدي تلك التقنية إلى تعزيز أمان البيانات والاتصالات، بالإضافة إلى حل المشكلات المعقّدة في الفيزياء والكيمياء.
وكذلك ستُمكن الحوسبة الكمومية من التعامل مع مهام حسابية معقّدة لا يُمكن للحواسيب التقليدية التعامل معها.
ومن المتوقع أيضاً أن تُسهم في تحسين التقنيات مثل رقائق الكمبيوتر، وأجهزة الاتصال والشبكات التي تحملها الأقمار الاصطناعية وغيرها.
تطور التقنية الكمومية
في السنوات الأخيرة، شهدت التقنية الكمومية تقدّماً كبيراً، خاصةً في شركات كبرى مثل "غوغل" و"آي بي أم" IBM و"مايكروسوفت" وغيرها من المؤسسات التي بدأت في استكشاف الكمبيوترات الكمومية وتطويرها. وتمكنت هذه الشركات من بناء أجهزة كمومية تتكوّن من عدد متزايد من "البتات" الكمومية متمتعة بقدرات حسابية متقدّمة.
وتتعهّد الشركات الكبرى بمواصلة الاستثمار في البحث والتطوير، لتحقيق تقدّم إضافي في هذا المجال. ومن المنتظر أن يؤدي تطور التقنية الكمومية إلى تحسين كبير في القدرات الحسابية للكمبيوترات، ما سيمكّنها من معالجة المشكلات التي تتطلّب حسابات موازية متقدّمة أكثر، مثل تشفير البيانات والمحاكاة الجزيئية والذكاء الاصطناعي طبعاً. وهل لنا أن نتصور كيف سيؤثر تطور الحوسبة الكمومية على مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي؟ سؤال قد تظهر إجابته قريباً، خصوصاً مع الإنتاج التجاري المتوسع للكمبيوترات الكمومية.