ماذا لو فكرنا في أن قضية "عصابة التيكتوكرز" ، التي هزت الناس لبنانياً وعربياً، تمثل في الأساس قضية تفاعل مختل بين الجمهور والمجتمع من جهة، وبين التطور التقني المتمثل بمنصات التواصل الاجتماعي؟
لا يطلق هذا القول جزافاً. وفي أبسط توصيف له، هو تلك القضية التي وُصِفَتْ بأنها خطيرة جداً، وتتمثل بأن عصابة استخدمت منصات السوشيال ميديا لاستغلال أطفال وقُصَّرْ وابتزازهم وإستدراجهم إلى تصرفات جنسية أوقعتهم في شباك الاستغلال والابتزاز والجريمة.
الظهور الوهمي وإلا الانسحاق
لنعيد قراءة الكلمات. ألا توضح أن منصات التواصل الاجتماعي شكلت الأداة الرئيسة في نسج شبكة السيطرة على الضحايا؟ ألم تكن في أساس الضغوط على أولئك الأطفال والمراهقين، تلك الممارسات الاجتماعية الواسعة واليومية التي تؤكد أهمية الظهور وتُكَرِّس الانجذاب إلى المؤثرين أو "أنفلونسيرز"، وثقافة تأكيد الذات عبر أعداد المعجبين والمسلسل اليومي لقياس الإنسان بمدى بروز صورة متألقة عنه للآخرين وغيرها؟ إن قوة هذه الأضواء المبهرة أعمتْ عيوناً كثيرة عن أن تلك المعطيات تجعل كل من يخرج من إطارها، شخصاً قليل الأهمية أو ربما ضئيل الشأن وكأنه غير موجود؟
وفي السنوات الأخيرة، تدافعت موجات "تسونامي" عالمية عن التأثير العاتي المتصاعد لمنصات التواصل الاجتماعي. وفي ظل ذلك الزخم، ظهر "تيك توك" ليغزو حياتنا اليومية بأشكالها وألوانها المتنوعة. وسرعان ما نُسجِتْ هالة من الوهم حول ما سُميّ بالـ"تيكتوكرز"، أي الأشخاص الذين ينشرون محتوى على "تيك توك"، وإعطاؤهم القدرة والمساحة والإمكانيات لجذب جمهور كبير والتأثير عليهم فوراً في مجالات الموضة والجمال إلى السياسة والمواضيع الاجتماعية، ما عزز وجودهم كشخصيات عامة "مؤثرة". ومع زيادة شعبية هؤلاء "المؤثرين" الرقميين، تُثار التساؤلات حول صحة ومدى تأثيرهم على الأطفال والمراهقين.
ولا شك أن تطبيق "تيك توك" غيّر طريقة تلقينا كجمهور للمحتوى الكوميدي والموسيقي والسياسي وحتى الثقافي والاجتماعي. وأثر "تيك توك" في الدول التي رفعته إلى مرتبة الأمن القومي، فيما تسلسل ذلك التطبيق إلى كل منزل وأعادت خوارزمياته صوغ طرق تعاملنا مع الوسائط الرقمية الاجتماعية.
"تيك توك" وصنع أيقونات الجيل الصاعد
من الواضح أن ظاهرة "المؤثرين" تتنامى، لكن من هو "المؤثر"؟ كيف يتولّد تأثيره وكيف ينسج تأثيراته؟ هل عدد المشاهدات والمتابعين كافية لاعتبار هؤلاء "التيكتوكرز" قدوة وأيقونة في التصرفات والمظهر وأسلوب الحياة وغير ذلك ليؤثروا على حياة غيرهم من القصّر والمراهقين والأطفال؟
في هذا السياق، بات مقياس شعبية مؤثر ما على "تيك توك" يتمثل بتلقي عدد كبير من الإعجابات والتفاعلات مع المحتوى الخاص به. وتقنياً، تتأثر خوارزميات المنصات بعدد التفاعلات مع المحتوى، فتعطيه أولوية على غيره في تصنيفاتها. ويفتح ذلك الباب أمام فرص تحقيق دخل محتمل لصاحب المحتوى المثير للإعجابات. وبالطبع دفعت هذه الآلية بمنشئي المحتوى إلى عرض فيديوات مبتذلة وغير لائقة وسخيفة، كي يحصدوا الإعجاب ويكسبوا المال.
واستطراداً، تأتي الأموال من الإعلانات التي تأتي من الشركات الكبرى التي تجذبها الأعداد الكبيرة من الإعجابات وشراكات العلامات التجارية. وكلما زاد عدد الإعجابات التي يتلقاها "المؤثر"، زادت إمكانية حصوله على المال لقاء مشاركته في تسويق سلع الشركات.
واستكمالاً، توفر منصة "تيك توك" نفسها طرقاً لتحقيق الدخل من خلال "صندوق الصانع" Creator Fund الذي يدفع لقاء المحتوى الذي يحظى بأعداد عالية من المشاركات والإعجابات والتعليقات.
"التحديات" وتسليع الأطفال في السوشيال ميديا
تؤكد ظاهرة "التحديات" المنتشرة على "تيك توك" ضرورة إيجاد قوانين تنظِّم عمل منصات السوشيال ميديا. وفي الغالب، تطلب تلك "التحديات" تكرار إجراءات أو حركات معينة مثيرة، ما يؤدي أحياناً إلى عواقب خطيرة أو غير قانونية، على غرار قيادة السيارة بشكل خطير أو التعدي على ممتلكات الغير أو تجاوز معايير المجتمع.
وكذلك تتحمل منصات التواصل الاجتماعي مسؤولية أساسية في الإشراف على ما تنشره من محتوى، وإخضاع "التحديات" لمعايير قانونية واجتماعية وإنسانية.
ومثلاً، ظهر "تحدٍّ" يطلب من الأشخاص خنق أنفسهم بالأدوات المنزلية حتى يفقدوا الوعي، ثم تصوير اندفاع الأدرينالين بمجرد استعادة وعيهم. ورُبِطَ ذلك التحدي بوفاة ما لا يقل عن 20 طفلاً خلال 18 شهراً، وفق بيانات جمعتها وكالة "بلومبرغ".
ولطالما اعتبر الخبراء أن الأطفال أصبحوا "سلعة" في سوق التكنولوجيا الجديدة. وعلى الرغم من أدوات التحكم التي تقدمها المنصات الرقمية، إلا أنها لا تكفي لحماية الأطفال والمراهقين ولا تقيهم من التحوّل إلى أداة بيد تلك المنصات.
واستكمالاً، هناك حاجة متزايدة للأطر القانونية التي تعالج "التحديات" والنشاطات الخطيرة على السوشيال ميديا.
وفي المقابل، يفترض بشركة "تيك توك" وغيرها من المنصات التعاون مع وكالات إنفاذ القانون لتحديد ومعالجة "التحديات" المضرة بالأفراد أو المجتمعات. ولا يخفى أن الانخراط في "التحديات" وما يماثلها من نشاطات، تعزز الميل إلى السلوك غير المسؤول، وتؤدي دوراً سلبياً للغاية في تشكيل وهندسة سلوك الجيل الصاعد.
وفي البُعد السياسي، يبرز إقرار مجلس النواب الأميركي بتوافق نادر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، مشروع قانون يجبر "تيك توك" على الانفصال عن الشركة الصينية المالكة له تحت طائلة حظره في الولايات المتحدة. وفي المقابل، صيغ القانون تحت ذريعة تهديد الأمن القومي الأميركي، وإمكانية أن تكون منصة "تيك توك" تابعة للحزب الشيوعي الصيني، إضافة إلى الخوف على بيانات المستخدمين الأميركيين.
وكخلاصة، ثمة حاجة لمعالجة أشكال التأثير السلبي على "تيك توك" وغيرها. ولعل الأهم يكمن في توعية المجتمع والأفراد، وتنبيه الأُسر إلى خطورة "تيك توك" والخضوع لثقافة الظهور والانجذاب غير الواعي لـ"المؤثرين"، تحت طائلة أن نواجه غداً، في لبنان أو بلد آخر، عصابة "تيك توكرز" جديدة.