الأرجح أنه منذ بدء عهد الطائرة في 1903 على يد الإخوة رايت في بلدة كيتي هوك الأميركية، لا شيء يؤرق أدمغة العلماء والجمهور أكثر من كارثة سقوط طائرة بركابها. كيف تكون الحال مع مقتل قرابة 366 شخصاً في سقوط طائرتين من النوع الأكثر تطوراً، "ماكس 737" لدى شركة مرجعية وضخامة في الطيران، هي "بوينغ"، خلال خمسة أشهر بين أواخر عام 2018 ومطالع عام 2019؟ ويصعب ألا تحضر تلك المآسي الدامية، وقد أعقبتها مجموعة حوادث أهون شأناً، عند قراءة الخبر عن توصل السلطات الرسمية الأميركية إلى الحصول على إقرار بالذنب من "بوينغ" بشأن الحادثتين المأسويتين.
"بوينغ" تقرّ بذنبها
وحاضراً، تواجه شركة "بوينغ" تحديات كبيرة في الوقت الحالي. أصبحت أي حادثة تتعلق بطائراتها تخضع لتدقيق إعلامي مكثف وتثير مخاوف المسافرين، حتى لو كانت حادثة روتينية.
وتتعلق التهمة بحادثي تحطم طائرتين من طراز "737 ماكس" في إندونيسيا وإثيوبيا في غضون خمسة أشهر في عامي 2018 و2019، ما أسفر عن مقتل 346 شخصاً ودفع عائلات الضحايا إلى المطالبة بمحاكمة "بوينغ".
ومن شأن ذلك الإقرار أن يجعل تلك الشركة الصانعة للطائرات مُداناً بتهمة جنائية. كما أن "بوينغ" ستدفع أيضاً غرامة جنائية قدرها 243.6 مليون دولار.
ووفقاً للملف المقدم للمحكمة، وافقت الشركة كذلك على استثمار ما لا يقل عن 455 مليون دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة لتعزيز برامجها المتعلقة بالسلامة.
ماذا بعد الاعتراف؟
وربما يهدد الإقرار بالذنب قدرة الشركة على إبرام عقود حكومية مربحة مع جهات منها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) و"وكالة الطيران والفضاء الأميركية" (ناسا)، لكنها قد تسعى إلى الحصول على إعفاءات.
ومن جانب آخر، يُجنّب الإقرار بالذنب "بوينغ" محاكمة كان من شأنها إثارة جدال واسع وتعريض عدد من قرارات الشركة التي سبقت تحطم الطائرتين لتدقيق عام أكبر من ذلك الذي أُجري حتى الآن. وكذلك يسهل الإقرار بالذنب على الشركة محاولة المضي إلى الأمام في سعيها للحصول على الموافقة على خطتها للاستحواذ على شركة "سبيريت إيروسيستمز".
حوادث مُتكرّرة لا تمنع التفوق
وفي الحديث عن مستوى الأمان داخل الطائرات الحديثة برزت حادثتان كبيرتان مطلع هذا العام. خلال شهر كانون الثاني (يناير) توفي خمسة أشخاص على متن طائرة "إيرباص إيه 350" A350 أن اصطدمت أثناء هبوطها في مطار طوكيو بطائرة تابعة لخفر السواحل كانت قد انحرفت على المدرج، ما أدى إلى اشتعال النيران فيها.
وبعد أيام من هذه الحادثة، انفصل مفصل باب الخروج في الجهة اليسرى لطائرة "بوينغ 737 ماكس 9" التابعة لشركة "ألاسكا إيرلاينز" فجأة بعد تحليقها على ارتفاع يزيد على 16 ألف قدم. ونجا الركّاب البالغ عددهم 177 شخصاً بأعجوبة، إذ ظلوا قابعين في مقاعدهم حتى تمكنت الطائرة من الهبوط بسلام في مطار بورتلاند، بولاية أوريغون، وفقاً لـ"المجلس الوطني لسلامة النقل".
تركت هاتان الحادثتان انطباعاً مختلفاً لدى عامة المسافرين. فقد أظهرت حادثة طوكيو احترافية طاقم الخطوط الجوية اليابانية وميزات السلامة في أحدث طائرات "إيرباص". بينما كشفت حادثة بورتلاند عن قصور في طريقة بناء "بوينغ" لطائراتها.
وفي أواخر شباط (فبراير) أعطى مدير إدارة الطيران مايك ويتاكر الشركة 90 يوماً للتوصل إلى خطة لتحسين الجودة وتخفيف مخاوف الوكالة المتعلقة بالسلامة، واصفاً الخطة بأنها بداية عملية التحسين، لا نهايتها. وفي تصريح لشبكة "إيه بي سي" في أيار (مايو) ذكر ويتاكر: "سيكون طريقاً طويلاً لإعادة بوينغ إلى حيث يجب أن تكون، لصنع طائرات آمنة".
وما لا شك فيه، لا تزال "بوينغ" مسيطرة على سوق الطيران، إلا أن هذه الحوادث الأخيرة والإقرار بالذنب حيال مأساتَي تحطم ومقتل مئات الركاب، تثير تساؤلات حول مدى قدرتها على الحفاظ على هذه المكانة واستعادة ثقة المسافرين في سلامة طائراتها.