منذ عام 2018، ما زال "النحس" يلاحق "بوينغ" الشركة الأميركية لصناعة الطائرات، فالحوادث المستمرة تضرب سمعتها وتكبدها خسائر بالمليارات. وآخر الحوادث "المؤسفة" في 5 كانون الثاني 2024: انفصال باب الطوارئ لإحدى طائراتها "ألاساكا 737 ماكس 9" في أثناء تحليقها، ما أدى إلى تكثيف التدقيق في واحدة من أبرز صنّاع الطائرات في العالم.
فقد استجوب مجلس الشيوخ الأميركي ، رئيس "بوينغ" التنفيذي، دايف كالهون في جلسة قاسية، تعرض خلالها لهجوم عنيف شنّه عليه أعضاء المجلس، اعترف بعد ذلك بأوجه القصور الصناعي في الشركة، وقدّم اعتذاراً لعائلات الضحايا عن إخفاقات "بوينغ" الأخيرة في تأمين سلامة المسافرين على متن طائراتها.
خسائر بالمليارات
لكن الندم وحده لا يكفي. يقول المستشار في شؤون التأمين وإدارة المخاطر، البروفسور جهاد فيتروني، إن خسائر "بوينغ" بلغت 355 مليون دولار في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، "لكنها أقل من خسائرها في العام الماضي، إذ بلغت حينها 425 مليون دولار، فيما حققت إيرادات تزيد على 16.5 مليار دولار في الربع الأول، وهو أقل مما أعلنته في العام الماضي". واضاف لـ"النهار": "أنفقت الشركة نحو 4 مليارات دولار نقداً، وهو استنزاف مالي كبير كانت قد توقعته الشركة".
يذكّر فيتروني بالمشكلات الكثيرة التي عانت منها طائرات "بوينغ"، وتحديداً "بوينغ 737 ماكس"، بعد حادثتي تحطم مميتتين: الأولى، رحلة "ليون إير 610" في 29 تشرين الأول 2018، والثانية رحلة الخطوط الجوية الإثيوبية رقم 302 في 10 آذار 2019، وأسفرت هذه الأخيرة عن مقتل جميع ركابها وأفراد طاقمها، "ليتم بعدها وقف استخدام هذا الطراز من ’بوينغ‘ على مستوى العالم".
ومعروف أن كارثة الطائرة الأثيوبية كلّفت "بوينغ" نحو 24 مليار دولار في يومين فقط، وهي الخسارة الأكبر منذ أكثر من عقد من الزمن، إذ اضطرت إلى دفع التعويضات وتحمل التكاليف القانونية وخسائر الإنتاج، إضافة إلى الخسائر الناجمة عن وقف طيران طائراتها من طراز "737 ماكس".
أثر هذا كله على القيمة السوقية للشركة بشكل كبير، فتراجعت قيمة أسهمها، وفقدت ثقة المستثمرين. وخسرت الشركة 46.44 مليار دولار من قيمة أسهمها منذ حادثة انفجار باب الطوارئ في كانون الثاني الماضي، إذ بلغت قيمتها السوقية آنذاك 152.86 مليار دولار.
مشكلات تقنية
أظهرت التحقيقات أن نظام التحكم الأوتوماتيكي في الطيران (MCAS) كان السبب الرئيسي في الحادثتين. يقول فيتروني: "انعكس هذا الخلل في التقنيات المستخدمة واحتمال انفجار خزان الوقود واحتراق الطائرة في الجو سلباً على سمعة "بوينغ" في السوق العالمية. فسعت الدول التي اشترت هذا الطراز من طائرات ’بوينغ‘ إلى استبداله بطائرات أخرى. وبعد تحذيرات عدة، أمهلت إدارة الطيران الفدرالية الأميركية (FAA) الشركة 90 يوماً لمعالجة شاملة لقضايا مراقبة الجودة النظامية".
لكن، حتى الساعة، لم تتمكن "بوينغ" من معالجة هذه المشكلة، على الرغم من الوعود التي قطعتها بإيجاد الحلول الناجعة قبل نهاية أيار الماضي، "وهذا لم يحصل، وبقي الخلل في أكثر من 300 طائرة مهددة بالانفجار في الجو أو بالاحتراق"، بحسب فيتروني، "فاستقال ستان ديل، الرئيس التنفيذي لأعمال الطائرات التجارية، وأُعلن عن تنحي ديف كالهون عن منصب الرئيس التنفيذي بنهاية العام الجاري".
إلى ذلك، عانت "بوينغ" أيضاً مشكلات إنتاجية في مصانعها، خصوصاً في مصنعها بكارولينا الجنوبية، حيث تم الإبلاغ عن مشكلات تتعلق بالجودة وعدم الامتثال للمعايير، ما أدى إلى تأخير تسليم الطائرات وزيادة التكاليف. ولم تقتصر المشكلات على طراز واحد من طائرات "بوينغ"، حيث واجه طراز "بوينغ 787 دريملاينر" بدوره مشكلات تتعلق بالبطاريات، حيث تسببت حوادث اشتعال في توقف هذه الطائرات عن الطيران فترة حتى حل المشكلة.
الأضرار تعم القطاع
لم تبقَ المشكلات دخل "بوينغ" نفسها، بل تجاوزتها إلى الاقتصاد الأميركي، نظراً إلى حجم الشركة الصناعي والتجاري، "ولا ننسى أن الخطوط الجوية الأميركية تستخدم طائرات "بوينغ" نفسها التي تعاني مشكلات عدة، وقد أثر توقف إنتاج طائرات ’737 ماكس‘ بشكل مباشر على قطاع الصناعات التحويلية، ونتج من ذلك فقدان آلاف الوظائف"، بحسب فيتروني، إضافة إلى تأثر سلاسل التوريد، فالعديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة متعاقدة مع "بوينغ".
ويضيف فيتروني لـ"النهار": "أثر الوقف الموقت لاستخدام طائرات "737 ماكس" بشكل كبير على حركة النقل الجوي، حيث اضطرت شركات طيران عدة إلى إلغاء رحلات كثيرة، وتعديل جداول الطيران لتغطية النقص في الطائرات"، ما سبب فوضى في جدولة الرحلات، وأثّر في حركة المسافرين.
"بوينغ" إلى أين؟
على الرغم من هذه المشكلات التي تلازم "بوينغ"، لا يمكن الجزم بأنها على شفا الانهيار. فالكثير من الشركات الصناعية تواجه مشكلات بنيوية وتشغيلية، قد تؤثر على إنتاجها وسمعتها بشكل عام وظرفي، إلا أن شركة بحجم "بوينغ" وتأثيرها قد تستطيع أن تتجاوز محنتها، بشهادة خبراء في قطاع الطيران، والدليل على ذلك موافقتها في الأول من تموز الجاري على إعادة شراء شركة "سبيريت إيروسيستمز هولدينغز" بسعر 37.25 دولار للسهم الواحد، في صفقة استحواذ على كامل الأسهم حددت قيمة الشركة الموردة عند 4.7 مليارات دولار.
وبحسب "بلومبرغ"، تهدف "بوينغ" من إتمام هذه الصفقة إلى إعادة دمج "سبيريت إيروسيستمز هولدينغز" في "بوينغ"، لتعزيز المحاولات الحثيثة لمعالجة العيوب التصنيعية التي ظهرت أخيراً.
وفي بيان أصدرته "سبيريت إيروسيستمز هولدينغز"، تبلغ القيمة الإجمالية للصفقة نحو 8.3 مليارات دولار، شاملة قيمة صافي الديون، فيما قال كالهون في بيان: "نعتقد أن هذه الصفقة في صالح جمهور المسافرين بالطيران وعملاء خطوطنا الجوية وموظفي شركتي ’سبيريت‘ و’بوينغ‘ وحاملي الأسهم والبلاد بشكل عام".
وبالنسبة إلى "بوينغ"، تترتب عن هذه الصفقة إعادة شركة أساسية موردة لطائرة "دريملاينر 737" و"دريملاينر 787" وطائرات تجارية أخرى إلى حظيرتها، في وقت تتأثر الشركة بأزمة مالية ناتجة من تباطؤ الإنتاج.