خلل تقني في منصّة سحابية معولمة للشركة العملاقة التي تهيمن نظمها وبرامجها على حواسيب العالم، أحدث شللاً أطاح بأعمال دول كثيرة بدا حتى أكبرها "متقزّماً" حيال العملقة الهائلة للبعد التقني للحياة المعاصرة. وليست السياسة الدولية في أحسن حالاتها في هذه اللحظة المهتزة، من محاولة اغتيال الرئيس السابق دونالد ترمب إلى الحرب في أوكرانيا إلى حرارة المناخ ونيرانه وغيرها. يصعب عدم التفكير في أن الهبوط الحاد للبورصات الأميركية الثلاث التي تقود اقتصاد العالم، بعيد عن انعدام ثقة الجمهور العالمي بالدول والمؤسسات. هل يمتص النظام العالمي هزّة الخلل في نظام مايكروسوفت العالمي أم تسير الأمور نحو اضطراب في الاقتصاد في عالم يعاني تصدّعات أساسية، فتصل الأمور إلى مسارات مجهولة. لننتظر ولا نتسرّع. ما زالت الدول الكبرى قويّة والعولمة تتجدّد والديموقراطية قد تعثر على مسارات غير متوقعة.
تشفير سطر خطأ يغرق العالم بشاشات الموت الأزرق
لنعد إلى البداية، إنها تصادم زلزالي نادر لبنيتين تحتيتين: التقنيات السحابية لمايكروسوفت وبرامج الأمن السيبراني المتطوّر لشركة "كراود سترايك". وأعلنت الأولى في 18 تموز أن منصّتها "آزور" تعاني انقطاعات منتشرة. في اليوم التالي، أعلنت الثانية أن خللاً في شيفرة تحديث أحد برامجها الأمنية المخصصة للتقنيات السحابية التي تستند إلى نظام التشغيل "ويندوز" يؤثر على "آزور" ويفاقم اضطرابها، مع زعزعة تطبيقات أساسية عليها، خصوصاً "أوفيس 365".
لنتأمّل الضربة. تتصدّر مايكروسوفت قائمة شركات المعلوماتية التريليونية الحجم (2.53 تريليون دولار)، وينتشر نظامها "ويندوز" على 850 مليون جهاز إلكتروني، وهي موضع ثقة تلقائي لمئات ملايين البشر. وتُعدّ شركة "كراود سترايك" من الأكثر مأمونيةً في صنع برامج الأمن السيبراني، وهي من بين مجموعة صغيرة من الشركات التي تسيطر على برامج الأمن السيبراني السحابي.
إذن، يتمثل الملمح الأول في أيدٍ قليلة تتمركز فيها معظم خيوط المعلوماتية والاتصالات وأمنها. [في مكان آخر، هناك مقال عن بدائل هذا التمركز والهيمنة].
لنتابع. تصنع "كراود سترايك" برنامج "فالكون" Falcon الأمني الذي يراقب أساساً أيّ تشفير مختلّ في البرامج الرقمية، بما في ذلك الفيروسات وهجمات الــ"هاكرز". يتميز "فالكون" بأنه يجب أن يعطى إمكانية الغوص عميقاً في الأجهزة وصولاً إلى التقاطع مع شيفرة نظام تشغيلها، والأهم أنه يصل أيضاً إلى "نقاط النهاية" أي شاشة الجمهور والشركات والمؤسسات بما عليها من برامج وتطبيقات. ولأنه برنامج للأمن السيبراني، يجب أن يتجدد بصورة تلقائية ومستمرة توخياً لحماية الأجهزة من التهديدات المتجددة والمتغيرة والمستمرة على الإنترنت. وبالتالي، يجري تحديثه بصورة مؤتمتة، تحميها بروتوكولات حماية أمنية مشتركة [في حالة منصّة "آزور" السحابية] بين شركتي "مايكروسوفت" و"كراود سترايك" تشمل التجربة والتصديق على الأصالة والمأمونية.
لكن المعلن حتى الآن، أن خللاً في تشفير برنامج "فالكون"، وربما حتى في سطر من الشيفرة، فاقم في اضطراب منصّة "آزور" المهتزة، فشلّت مطارات ونظم نقل جوي ورحلات قطارات وأعمال مستشفيات ونظم رعاية صحية وبنوك وفنادق وتلفزيونات وآلات صرافة آليّة وغيرها، من التي تعتمد على النظام الأكثرانتشاراً في العالم والمنصة السحابية الموثوقة في الأرض.
إذن، كيف حصل الخلل في هذه الأيدي التي تُعدّ من الأعلى في المستويات التقنية؟
في الغرب، اقنتع خبراء كثر بالتفسيرات التي قدمتها الشركتان، فيما بقي آخرون في تساؤل عن مدى وضوحها، وبعضهم ينتظر مزيداً من التفاصيل، خصوصاً أن عمليات التدقيق والتوثيق والمراجعة والاختبار للبرامج الأمنية التي تسمح لها "مايكروسوفت" بالوصول إلى عمق أنظمتها، تتميز بمستويات متقدمة ومعيارية.
الأسوأ، أن هذا الخلل العالمي حدث في سياق عمل عادي وتحديث مؤتمت لبرنامج أمني فائق المتانة. هل تُضرب ثقة الجمهور بالتكنولوجيا الرقمية؟ هل يعبر انهيار البورصات الأميركية أم يدخل في اضطراب مستمرّ وربما انفجار فقاعة أسهم التكنولوجيا على غرار عام 2000؟