في قلب الصحراء المصرية الشاسعة، وبعيداً عن ضوضاء العالم الحديث، تقف أهرامات الجيزة شامخة كشواهد صامتة على عظمة الحضارة المصرية القديمة. ومن بين هذه الأهرامات، يبرز الهرم المدرج في سقارة كأول هرم بُني على الإطلاق، رمزاً للابتكار الهندسي والتطور الفكري الذي تميزت به تلك الحقبة.
بدأت قصة بناء الأهرامات في عهد الأسرة الثالثة واستمرت طيلة عصور، وكان لها تأثير كبير على الفنون والعلوم والثقافة المصرية. اشتهر المهندس العبقري إمحوتب بتصميم هرم زوسر المدرج في سقارة، والذي يعتبر أول هرم في تاريخ البشرية. تلت ذلك العديد من الأهرامات، كل واحد منها يعكس تحسينات وتطورات في فن العمارة والهندسة.
تُعد الأهرامات المصرية بلا شك من بين أروع الإنشاءات التي صنعها الإنسان في التاريخ. هناك العديد من الروايات و"المؤامرات" حول كيفية بناء تلك الأهرامات، حتى أن بعض النظريات تتضمن وجود صلة بكائنات من عالم آخر، مثل الكائنات الفضائية. ولكن، بالطبع، لا دليل قوياً يدعم مثل هذه النظريات الغريبة.
ولطالما طرح العلماء على أنفسهم سؤالاً عن الكيفية التي تمكنت بها حضارة قديمة من بناء تلك الإنشاءات الضخمة في غياب الآلات الثقيلة. ومع التقدم في العلوم، قد نعرف أخيراً كيف بُنيت الأهرامات، حيث يعتقد الفيزيائيون أنهم اكتشفوا أخيراً أسرار البناء.
الفراعنة وابتكار آلات هيدوليكية
وفي أحدث محاولاتهم، اقترح الباحثون نظرية مذهلة، تنص على أن شكلاً من أشكال الرفع الهيدروليكي قد استخدم في بناء الهرم المصري الذي يعود تاريخه إلى 4600 عام. ففي دراسة نُشرت كنسخة مسبقة على موقع ResearchGate، ذكر الباحثون إن المناظر الطبيعية والممرات المائية والعمارة الداخلية لهرم زوسر المدرج، تشير إلى وجود ذلك النظام الهيدروليكي.
ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة "هيريتدج دايلي"، فقد تضمنت النظرية السابقة الشائعة على نطاق واسع، أن بُناة الأهرام استخدام سلالم وبكرات لرفع ووضع الأحجار الضخمة الهائلة الحجم. وقد اكتشف الباحثون الآن أدلة إلى احتمال استخدام نظام مكون من مجموعة آلات هيدروليكية. وجاء ذلك الاستنتاج بعد دراسة تمثال زوسر في سقارة، الذي يتراوح ارتفاعه بين 60 إلى 62 متراً تقريباً.
قاد هذه الدراسة الدكتور كزافييه لاندريو من معهد "سي إي إيه باليوتكنيك" CEA Paleotechnic وفريقه من المهندسين الفرنسيين وعلماء الهيدرولوجيا وعلماء المواد. وقد كشفت الدراسة عن رؤى جديدة حول بناء الهرم، استندت أيضاً إلى صور الرادار عبر الأقمار الاصطناعية وعلم الآثار التاريخية. وبدلاً من الهرم الأكبر في الجيزة، اختار الباحثون دراسة هرم زوسر المدرج لأنه أقدم مبنى حجري ضخم في مصر. وقيل إنه شُيِّد في عهد الأسرة الثالثة في عهد الفرعون زوسر (حوالي 2670-2650 قبل الميلاد).
وقد تمثّل الاكتشاف الأول لتلك الدراسة في "جسر المدير" الغامض، وهو عبارة عن حظيرة حجرية مستطيلة الشكل يبلغ طولها حوالي كيلومترين وتقع غرب مجمع زوسر مباشرةً. وقد اختلفت التفسيرات حول تفسير السور على أنه حظيرة ماشية أو حصن أو مكان مقدس.
وفي مقابلة مع صحيفة هآرتس، أوضح الدكتور لاندريو، "بوضوح، تُظهر صور الأقمار الاصطناعية أن السور الحجري المستطيل المعروف باسم جسر المدير والواقع غرب مقبرة سقارة يتمتع بجميع الخصائص التقنية لسد هدفه التحكم في مجرى مائي. وقد استُخدمت تلك التقنية للتحكم في تدفق الفيضانات المفاجئة والتقاط الأجسام الثقيلة القادمة من أعالي النهر". ويشار إلى أن النيل ينبع في بحيرة فيكتوريا المجاورة لجبل كليمنجارو، أعلى جبال أفريقيا بارتفاع 5895 متراً، ثم يسير منحدراً صوب مصبه في البحر الأبيض المتوسط.
واستطراداً، تعتبر هذه نظرية أكثر تقدماً من سابقاتها إلى حد كبير، وتفتح الباب أمام اتجاهات بحثية جديدة عن بناء الأهرامات. وتشير نتائج الدراسة إلى أن وجود نظام متطور لإدارة المياه سهّل عملية البناء. ووفقاً لمؤلفي الدراسة، "اشتهر المصريون بريادتهم وإتقانهم للهيدروليكا، وفق ما يظهر من خلال القنوات المائية التي صنعوها لأغراض الري، وكذلك الحال بالنسبة إلى المراكب الكبيرة التي استعملوها لنقل الأحجار الضخمة بالفعل".
وتذكيراً، تظل الأهرامات المصرية حتى اليوم موضع إعجاب ودراسة من قبل العلماء والمهندسين وعشاق التاريخ، وتقدم لنا دروساً قيّمة حول التخطيط والتنفيذ والإبداع. إن فهمنا لكيفية بناء هذه الأهرامات يعزز تقديرنا للمهارات والمعرفة التي كانت متوفرة في العصور القديمة، ويذكرنا بأن الطموح البشري لا يعرف الحدود.
وحينما ننظر إلى الأهرامات اليوم، نرى أنها أكثر من مجرد حجارة متراصة. بالأحرى، نرى تاريخاً حياً يتحدث عن حضارة قديمة عظيمة تركت بصمة لا تُمحى على وجه الزمن. ويظل إرث الفراعنة شاهداً على قدرات الإنسان وإمكاناته، ومصدر إلهام للأجيال القادمة للسعي وراء الإبداع والتفوق في المجالات كلها.