النهار

الذّكاء التّوليديّ بين الابتكار والاستدامة البيئيّة
راغب ملّي
المصدر: النهار
الذّكاء التّوليديّ بين الابتكار والاستدامة البيئيّة
تعبيرية: الذكاء التوليدي يشكل تحديًا بيئيًا
A+   A-

في الوقت الذي يتخطّى فيه الذكاء التوليدي حدود الخيال، ويتغلّغل بخفة في أروقة حياتنا، يظهر كفارس مغوار في ميدان التحدّيات الكونية، كمعضلة الاحتباس الحراري والتصحّر. لكن في ظل هذا الزخم الهائل، ترقد شبكات عصبية متشابكة تستنزف الطاقة بنهم، مما يدقّ ناقوس الخطر حول التأثير البيئي الذي قد تخلّفه هذه الآلات العبقرية.

 

العدالة البيئية والتكنولوجيا

تأثيرات الذكاء التوليدي لا تقتصر على التقنية فحسب، بل تمتد لتشمل جوانب الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات. رغم المحاولات لتطبيقه بشكل مستدام، غالبًا ما تُهمل الأبعاد الإنسانية، مع التركيز على الإحصائيات مثل الانبعاثات الكربونية واستهلاك المياه، دون الاعتبار للعدالة البيئية وحق الجميع في بيئة صحية.

من أكبر عشر شركات عالميًا، سبع منها في التكنولوجيا، ما يبرز تأثير القطاع الكبير. لكن، مع القوة تأتي الحاجة لموارد ضخمة. البيانات تُظهر ارتفاعًا في التلوث واستخدام الموارد، مرتبطًا بالذكاء التوليدي، وهو ما يتوافق مع الاستثمارات الكبرى في القطاع خلال العامين الأخيرين. يُرجّح خبراء أن الزيادة الأخيرة في التلوث واستخدام الموارد يمكن أن تُعزى إلى الذكاء التوليدي. والجدير بالذكر أن هذا يتزامن مع الاستثمارات الضخمة في هذا القطاع والخدمات ذات الصلة على مدى العامين الماضيين.

 

استهلاك الطاقة في الزمن التوليدي

تشهد الأرقام الجديدة من كبرى شركات التكنولوجيا، "غوغل" و"مايكروسوفت"، ارتفاعًا ملحوظًا للعام الثاني على التوالي في ثلاثة مجالات رئيسية.

كشفت "غوغل"، الجهة المطورة لنموذج الجوزاء، عن تصاعد استهلاكها للطاقة بمعدل 16.2% في العام 2023 مقارنةً بالسنة التي سبقتها. من جانبها، أظهرت "مايكروسوفت"، مالكة Copilot والمزودة للبنية التحتية لـ "أوبن إيه أي" لتطوير "شات جي بي" وDall-E، زيادة في النمو بلغت 28.7% وفقًا لتقريرها السنوي للاستدامة.

وقد شهدت الشركة التي أنشأها بيل غيتس زيادة مضاعفة في استهلاك الطاقة من 11.2 مليون ميغاوات ساعة إلى 24 مليون ميغاوات ساعة بين عامي 2020 و2023. وعلى نحو مماثل، سجّلت "غوغل" ارتفاعًا بنسبة 67% في نفس الفترة.

تشكّل وحدات معالجة الرسوميات GPUs، التي تُستخدم في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، قوة أكبر بكثير مقارنةً بوحدات المعالجة المركزية التقليدية CPUs، والتي كانت حتى وقت قريب الخيار الأمثل في مراكز البيانات. ونتيجة لذلك، تزداد استهلاكات الطاقة بشكل كبير، قد تصل إلى عشرة أضعاف. يحتاج تطوير نماذج اللغة المعقّدة إلى العمل بعشرات الآلاف من وحدات معالجة الرسوميات على مدار الساعة لفترات تمتد لأسابيع أو حتى أشهر. وتُعاد صياغة النماذج اللغوية المتطورة بانتظام لتضمين المعلومات الجديدة، وكلما طلب المستخدمون خدمة عبر أجهزتهم المحمولة أو أجهزة الكمبيوتر، تُحسب الإجابات في مراكز البيانات. هذا الاستهلاك المتزايد للطاقة أدّى إلى ضغط كبير على الموارد، ما دفع بعض الشركات إلى التفكير في بناء محطات طاقة نووية صغيرة لتأمين الكميات اللازمة والمستدامة من الطاقة.

 

البصمة المائية الخفية

تُعدّ مراكز البيانات العملاقة، التي تُشغّل الذكاء الاصطناعي ومختلف العمليات الرقمية، عبارة عن مستودعات ضخمة تحتوي على أعداد كبيرة من الأرفف المتراصة والمعالجات المنظمة بطريقة تشبه الخزائن أو الثلاجات. هذه المعالجات والخوادم، التي تخزن معلوماتنا وتدير التطبيقات عبر الإنترنت، تعمل  من دون توقف، ما يؤدي إلى إنتاج حرارة مرتفعة. وفي حال عدم السيطرة على درجات الحرارة، قد تتضرر الأجهزة.

للتحكّم في حرارة هذه المراكز، يُستخدم الماء للتبريد ويُرش على الأجهزة لخفض درجة الحرارة. وقد شهد استهلاك الماء زيادة بنسبة 13.8% و 21% في عام 2023، وهي نسب مشابهة للأرقام التي تمّ تسجيلها في العام السابق. على سبيل المثال، أفادت شركة "مايكروسوفت" باستخدامها لحوالى 13 مليار ليتر من الماء، حيث تمّ تبخير أو استهلاك أكثر من نصف هذه الكمية (حوالى 8 مليارات ليتر)، ما يعني أنها لم تعد قابلة للاستخدام مرّة أخرى. في المقابل، استخدمت "غوغل" حوالى 8.6 مليارات ليتر من الماء، لكنها أعادت 26.6% فقط من هذه الكمية إلى النظام.

ومع ذلك، لا تعكس هذه الأرقام الواقع الكامل لاستهلاك مطوري الذكاء التوليدي للمياه. إذ تقتصر البيانات التي تقدّمها الشركات على كمية الماء المستخدمة في تبريد مراكز البيانات فقط، دون ذكر الماء المستخدم في توليد الطاقة الكهربائية التي تستهلكها هذه المراكز أو الماء المستخدم في سلسلة توريد المنتجات، مثل تصنيع الشرائح والأجهزة الأخرى، وهو ما يشبه الحال بالنسبة لانبعاثات الكربون.

تحدّيات سلاسل التوريد

في ما يتعلق بانبعاثات الكربون، فقد نمت شركة "غوغل" بنسبة 13% ونمت شركة "مايكروسوفت" بنسبة 3.8% في العام الماضي. وتكون الزيادة 67% و40% على التوالي، إذا روعيت الأربع سنوات الأخيرة.

ووفقاً للخبراء، فإن معظم التلوث المنبعث من هذه الشركات يتعلق بسلسلة التوريد الخاصة بها. حيث يُعبتر المُحرّك الرئيسي للزيادة في انبعاثات الكربون العالمية هو ما يرتبط بتصنيع رقائق الذكاء التوليدي وبناء مراكز البيانات.

 

البيئة وتحدّيات السباق في الذكاء التوليدي

من "غوغل" إلى "مايكروسوفت"، "ميتا"، "أمازون" (التي لم تنشر بعد تقاريرها البيئية لهذا العام) و"أبل"، كل شركات التكنولوجيا الكبرى منغمسة في برامج لتحسين سجلات انبعاثات الكربون لديها وتقليل كمية المياه التي تستخدمها. والهدف بالنسبة للعديد منها هو الوصول إلى عام 2030 ببصمة بيئية منخفضة للغاية.

وفي دراسة تمّ نشرها أخيرًا في مجلة Communications of the ACM، وهي مرجع في قطاع الحوسبة، قدّم الباحثون توقعات بناءً على الاستهلاك الحالي والاتجاهات في هذا القطاع. سيكون الطلب العالمي من الذكاء التوليدي مسؤولاً عن استخدام ما بين 4.2 و6.6 تريليون ليتر بحلول عام 2027، أي ما يعادل نصف المياه المستخدمة كل عام في المملكة المتحدة. وفي العام نفسه، سيتراوح الطلب على الطاقة في مجال الذكاء التوليدي بين 85 و134 تيراواط في الساعة.

 

وخلص الباحثون إلى أنه "إذا نظرنا فقط إلى الانبعاثات الناتجة من استهلاكهم المباشر للطاقة والمياه، فلن يتمكنوا من تحقيق أي انبعاثات أو عدم استخدام مياه أكثر مما يساهمون به بحلول عام 2030، وربما حتى قبل ذلك". "لكن إذا نظرنا إلى بصمتهم الحقيقية، فمن غير المرجح أن يحققوا الحياد بحلول عام 2030".

اقرأ في النهار Premium