أثار توقيف صاحب تطبيق "تلغرام" في فرنسا بافل دوروف موجة استياء بين مؤيدي "حرية التعبير المطلقة"، مثل صاحب منصة "أكس" الملياردير إيلون ماسك. لكن خطوة توقيف ومحاكمة دوروف ليست الأولى من نوعها. إنها حلقة في سلسلة من خطوات تظهر نزعة متزايدة لدى الدول، بما فيها الغربية، للتدخل في سياسات شركات التكنولوجيا الكبيرة. فما الذي يمكن أن يفسّر هذه النزعة؟
"صاروخ جيوسياسي غير موجّه"
قلة تعتقد أن ما حصل مع دوروف أو مع غيره سيكون الاستثناء في الحقبة المقبلة. على العكس، قد تسلك مساهمة الدول الغربية في التحكم بقرارات عمالقة التكنولوجيا مساراً تصاعدياً. من بين أصحاب هذا الرأي، كاتب الشؤون الدولية في صحيفة "فايننشال تايمز" جدعون راخمان.
تكمن قوة ماسك الحقيقية في امتلاكه شركات تستند إليها الدولة الأميركية للحصول على خدمات أساسية مثل "ستارلينك" و"سبايس أكس". هذه القوة قد تجعل العالم معرّضاً لأهواء من يصفه الكاتب بأنه "صاروخ جيوسياسي غير موجه".
والصدام بين "أكس" والبرازيل وتوقيف دوروف هما إشارتان إلى أن عصر حصانة وسائل التواصل الاجتماعي تشرف على نهايتها في العالم الديموقراطي، بحسب راخمان. وهذا قد يفسر سبب غضب ماسك المتزايد من البرازيل والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وحتى من ولاية كاليفورنيا. لكن في النهاية، وبالرغم من كل قوة ماسك، يبقى أنه غير قادر على سن وتنفيذ القوانين.
بعبارة أخرى، إذا كان أصحاب شركات التكنولوجيا العملاقة يظنون أن ضخامة شركاتهم، بل حيويتها، ستقيهم من تدخل الدولة في شؤون أعمالهم، فسيستيقظون على واقع مغاير تماماً. في الحقيقة، ستكون تلك القوة نفسها عامل جذب بالنسبة إلى الحكومات المحلية. ولا يتعلق الأمر، على الأقل ليس بشكل كامل، بتدخل "متعسف" للحكومات في حيّز القطاع الخاص. فالعالم المتبلور حالياً يفرض قواعد لعبة جديدة على الحكومات والشركات معاً.
عن أميركا "الهاملتونية"
في العدد الحالي من مجلة "فورين أفيرز"، يكتب أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز هاملتون للتعليم المدني والكلاسيكي بجامعة فلوريدا والتر راسل ميد عن "عودة فن الحكم الهاملتوني".
ألكسندر هاملتون هو أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة. عاش بين سنتي 1755 و1804 وخدم كوزير للخزانة في ولاية الرئيس الأميركي الأول جورج واشنطن، كما ساهم في صياغة "الأوراق الفيدرالية". باختصار، يدافع ميد عن أميركا هاملتونية تعود في سياستها الخارجية إلى طريق وسط بين شعبوية جاكسونية تدخلية وبين انعزالية جفرسونية، لكن أيضاً تأخذ بالاعتبار توازن سياستيها الخارجية والداخلية، بما فيها المالية والتكنولوجية والاستثمارية.
في ما يخص الشركات الكبيرة، انتهت سردية ما بعد الحرب الباردة القائلة إن ما هو جيد للعالم جيد أيضاً لأميركا. اليوم، تواجه تلك الشركات عوائق تنظيمية من القوى "التنقيحية"، كما أن استفادتها من الدعم الرسمي للسياسات الخضراء يزيد من تدخل الحكومات في استثماراتها. "لم يحصل قط أن كانت قوة الدولة مرتبطة بهذا الشكل الوثيق بدينامية عالم الشركات".
ويضيف ميد أنّ "مجمّع مال-أعمال-حكومة" هو ضروريّ باطّراد لازدهار أميركا وأمنها. "يكتشف قادة الأعمال والحكومة اليوم شيئاً أمكن هاملتون أن يخبرهم أنه كان صحيحاً لوقت طويل: السياسة الاقتصادية هي استراتيجية وبالعكس". بمعنى عملي آخر، "سيشعر اليمين الليبرتاري بخيبة أمل من وجود ومن تعمّق هذه الصلة"، بينما "سيتألم اليسار المناهض للشركات عندما يدرك أن الدول ستختار بالضرورة استخدام نفوذها الاقتصادي والسياسي لتعزيز شركات التكنولوجيا الكبرى بدلاً من كبح جماحها".
العالم يتغير
إذاً، إن موضوع ازدياد الرقابة و/أو التدخل في قرارات عمالقة التكنولوجيا لا يتعلق بالأمن بمفهومه الضيق وحسب، على الرغم من أهميته الكبيرة. لطالما سادت مخاوف تجاه الضوابط الأمنية، أو بالأحرى غيابها تقريباً، في تطبيقات مثل "تلغرام". ساعد ذلك إلى حد كبير في توليد بيئة متساهلة مع محتويات الإرهاب وحتى الاعتداءات الجنسية على الأطفال، بحسب الاتهامات.
لكن على صعيد أوسع مرتبط بصراع القوى الكبرى، تعتقد الولايات المتحدة أن القوى المناهضة لها، وفي طليعتها روسيا، تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي من أجل نشر أخبار مزيفة. سنة 2018، اتهم المحقق الخاص روبرت مولر 13 روسياً يعملون في "وكالة أبحاث الإنترنت" (تابعة لإحدى شركات يفغيني بريغوجين) بمحاولة التأثير على الانتخابات عبر 3500 إعلان مرتبط بالشرطة والهجرة والعنصرية وغيرها من القضايا الإشكالية. على الرغم من أن خبراء يصفون هذا المجهود بأنه "قطرة في المحيط السام لهستيريا منصات التواصل الاجتماعي الأميركية"، يبقى أنه فتح أعين القادة الأميركيين على فضاء جديد من "مناطق الصراع الرمادية" والتي يمكن لأعداء واشنطن استغلالها. بطبيعة الحال، لن تقف الحكومة الأميركية مكتوفة الأيدي تجاه إمكانية استخدام منصات التواصل الاجتماعي لإيذاء أميركا بذريعة احترام حرية التعبير، أو أمام شركات تكنولوجية أخرى وهي تنقل عصارة خبرتها ورقائقها الإلكترونية إلى "منافس منهجي" كالصين.
لم يعد باستطاعة الشركات الكبرى التصرف وكأنها دولة ضمن الدولة أو دولة أكبر من الدولة حتى، خصوصاً أنها تلقت على فترات دعماً من الخزانة، أي من أموال دافعي الضرائب. حتى مع مقارنة الدولة بشريك مساهم، حان موعد حصول الأخير على جزء من استثماراته.
حالياً، يمكن فهم رد الفعل الشعبوي في الولايات المتحدة إلى حد كبير: غادرت غالبية الشركات الكبرى الأراضي الأميركية بحثاً عن فرص استثمارية أقل كلفة حول العالم، متسببة بمشاكل للطبقة الوسطى في الداخل، وبإثراء الدول المناوئة لواشنطن في الوقت نفسه. يسهّل ذلك الاتهامات الشعبية الداخلية للشركات الأميركية بأنها "إما يقظوية، أو موالية للصين، أو الاثنين معاً"، بحسب تعبير ميد.
مع صعود الصين وتمرد روسيا وانفلاش إيران في الشرق الأوسط، لكن أيضاً مع ظهور الشعبويين المشككين بالديموقراطية، يصعب الإبقاء على السياسات الأميركية التي سادت في العقدين الواقعين على جانبي الألفية الحالية. فترة الرخاء السياسي والأمني والمالي انقضت، ومعها استقلالية الشركات الكبرى التي استفادت بشكل شبه مجاني من تلك الفترة. يبدو أن دفع جزء من تلك الأرباح قد استحق موعده، وإن لم يكن بالضرورة عبر زيادات ضريبية.