يواصل القطاع الصحّي انهياره البطيء والمستمر رغم المحاولات الخجولة التي تحاول سدّ الفجوات والتخفيف من حدة السقوط. لا يمكن أن يكون القطاع الصحّي بمنأى عن باقي القطاعات التي تتهاوى تباعاً. انقطاع الأدوية يبقى الصفعة الأقوى للمريض الذي وجد في التهريب خلاصه من دون أن يعلم أنه قد يكون السبب في وفاته نتيجة الأدوية المزورة والمغشوشة التي تدخل إلى الأراضي اللبنانية من دون حسيب أو رقيب.
المستشفيات تئن، صرخات تعلو للتحذير من الانهيار الكبير، الاستشفاء يكاد يكون للأغنياء فقط في ظل ارتفاع الفاتورة الاستشفائية والاستنزاف المتنامي لهجرة الأطباء والممرضين التي فاقمت الأزمة أكثر والخوف من تراجع الخدمة الصحية.
وبينما لم يعدّ للأدوية، حتى السرطانية منها، الدعم اللازم، يقف مستوردو الأدوية في الوسط بين تباطؤ وعدم تسديد فواتير سابقة في المصرف المركزي، وبين التواطؤ مع بعض التجار وتنشيط حركة السوق السوداء، وبين "تنييم" للكمية المخزنة في انتظار رفع الدعم الكلي وجني الأموال.
باتت الصحّة في لبنان عملية حسابية، أرقام مدولرة أو ما يوازيها على سعر الصرف، وبات المريض مجرد ماكينة تدرّ أموالاً، "معك تدفع بتتعالج وما معك الله يساعدك". هناك مرضى توفوا في منازلهم لأنهم عجزوا عن تحمل التكاليف الاستشفائية التي تضاهي كل جنى عمرهم. وهناك مرضى كادوا يخسرون حياتهم لأنهم تناولوا دواء مزوراً. وهناك مرضى يدفعون ويستدينون للحصول على العلاج.
يعترف نقيب المستشفيات الخاصة الدكتور سليمان هارون أن "الاستشفاء في لبنان أصبح للأغنياء فقط"، لا يُبالغ في هذا الوصف، علينا الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة، لم يعد بمقدور كثيرين الدخول إلى المستشفى وتلقي العلاج لأنهم لا يملكون المال. في المقلب الآخر، اضطرت المستشفيات نتيجة الأزمة إلى تخفيض عدد الأسرة لديها بين 30 إلى 40 في المئة.
برأي هارون نحن نواجه مشكلتين، تتمثل المشكلة الأولى بالعائق المادي، فبعد رفع الدعم عن المستلزمات الطبية وارتفاع الدولار بشكل كبير ارتفعت الفاتورة الاستشفائية بشكل جنوني أي بمعدل 20 مرة أعلى مما كانت عليه سابقاً على الليرة اللبنانية. ولم يعد بمقدور الناس الدخول إلى المستشفيات. في الوقت نفسه، لم تعد تغطية الجهات الضامنة، مثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاونية الموظفين، قادرة على تغطية النفقات الاستشفائية كما في السابق، وبات المريض يدفع الفاتورة من جيبه الخاص.
وفي ظل تعذّر الجهات الضامنة عن زيادة التعرفات بشكل يوازي الارتفاع في الكلفة الطبية، وفي ظل غياب أي أفق قريب لانفراج الأزمة، بل على العكس نجد أن الأزمة إلى اشتداد أكبر، ستبقى الفاتورة الطبية تشهد ارتفاعاً متواصلاً.
وعن كلفة الاستشفاء، يشير هارون إلى أن الفاتورة تختلف حسب العمل الجراحي، ولكن على سبيل المثال لا الحصر تعتبر عمليات العظم الأكثر كلفة اليوم (لأنها تتطلب استخدام المغروسات الطبية (مستوردة من الخارج ومرفوع عنها الدعم) وقد تصل كلفة جراحة الورك إلى 200-250 مليون ليرة والتي يجب على المواطن أن يدفعها من جيبه. في حين تبلغ كلفة تمييل شرايين القلب قرابة 200-300 مليون ليرة حسب عدد الراسورات المستخدمة.
من ناحية ثانية، يتحدث هارون عن أزمة أخرى تواجه القطاع الاستشفائي وتتمثل بظاهرة الهجرة الطبية والتمريضية التي زادت بشكل مطّرد منذ العام 2020 حتى اليوم، لاسيما الفئة العمرية التي تتراوح بين 30-50 عاماً، أي الذين يتمتعون بالكفاءات وبالخبرة. وما يقلقنا اليوم أن تتدنى نوعية الخدمات بسبب الهجرة الطبية والتمريضية من ناحية، وبسبب عدم القدرة على إصلاح المعدات الحديثة وتجديدها من ناحية أخرى.
كما يتخوف هارون من عدم قدرة بعض المستشفيات على الصمود، وقد بدأنا نلمس ذلك من خلال انتقال ملكية المستشفى من فرد إلى آخر مثل مستشفى سان لويس في المعاملتين أو من خلال دمج المستشفى مع مستشفى جامعي كبير، كما حصل مع مستشفى تل شيحا ومستشفى سان شارل ومستشفى القرطباوي ودمجها مع مستشفى أوتيل ديو.
ولا يستبعد نقيب المستشفيات الخاصة أن نشهد في العام 2023 على تعثر بعض المستشفيات نتيجة الأزمة المالية المستمرة.
وبما أن الأزمة المالية ناتجة عن انهيار اقتصاد البلد، فإن أي حل لا يمكن أن يرى النور إلا إذا كان حلاً سياسياً ومالياً من خلال انتخاب رئيس للجمهورية إلى تشكيل حكومة وتنظيم إداري حتى تتعافى القطاعات ومنها القطاع الصحي، وإلا سنكون أمام المزيد من الانهيار.
القطاع الدوائي: بين انقطاع وتزوير
في غوص أكثر في الأزمة الدوائية بلبنان، يُلخص نقيب الصيادلة جو سلوم لـ"النهار" أبرز نقاط الضعف التي يعاني منها القطاع الصيدلي والدوائي، والحلول المقترحة للخروج من هذه الأزمة الصحية.
يبدأ أولاً بالتحدي الأول المتمثل بتأمين الدواء، وهو ينقسم إلى أقسام عدة أهمها أدوية السرطان المدعومة التي يجب أن نؤمن أموال الدعم لها، والتي يجب أن ترفع ميزانية الدعم لها من 25 مليون دولار إلى 60 مليون دولار حتى تغطي كل حاجة السوق اللبناني.
في حين يكمن التحدي الثاني في طريقة تأمين الدواء للمريض ودعم الصناعة المحلية ورفع الدعم عن الأدوية حتى يصل الدواء إلى لبنان، وطالما الدواء مدعوم ولا أموال للدعم فلن يتأمن الدواء، بالإضافة إلى الحفاظ على الشركات والمصانع والقطاع الصيدلاني في لبنان.
في المقابل، يشدد سلوم على أهمية رفع القدرة المالية وأهمية اطلاق البطاقة الصحية وإقرار خطة دوائية بهدف توفير المساعدة للمريض ليأخذ دواءه بكل كرامة. ونعلم جيداً أنه لإقرار البطاقة الصحية نحن بحاجة إلى سلطة تشريعية ومجلس نواب، وإن طرحها وتأمينها للمريض يتطلب رصد مبلغ مادي معين على سبيل المثال في حال تأمين 10 ملايين دولار فهي تغطي نسبة معينة من المرضى.
أما النقطة الثالثة التي يجب معالجتها فتكمن في وقف ظاهرة التهريب والتزوير، خصوصاً بعد صدور توصية من منظمة الصحة العالمية بعد تسجيل حالات تلوث جرثومي بدواء سرطاني يعطى للأطفال في لبنان. من هنا، يجب التشدد ومنع دخول الأدوية المهربة إلى الداخل اللبناني إلا عبر الأطر السليمة والشرعية.
استيراد الدواء: مكامن الخلل
يُفنّد نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة لـ"النهار" مكامن الخلل أو الضعف التي تؤثر على القطاع الصحي، وتحديداً الدوائي في لبنان والتي تتلخص بأربع نقاط:
1- تراجع إمكانيات الجهات الضامنة وعدم القدرة على تغطية كلفة العلاجات الدوائية بسبب انهيار مداخيلها.
2- انقطاع الأدوية خصوصاً المدعومة نتيجة غياب الأموال الكافية للدعم لتغطية كل المرضى اللبنانيين. وفي ظل الأجواء المتقلبة والغامضة في قدرة دعم الأدوية المستعصية، نجهل ما نحن مقبلون عليه، وهل ستتوقف الأموال المخصصة للأدوية المستعصية أو تنخفض نتيجة الوضع، وبالتالي هناك نقص في الأدوية ومرضى لا يتعالجون.
3- ونتيجة الأدوية المحدودة أو عدم توفرها بشكل كافٍ، نواجه التهريب والتزوير وتفشيه في السوق اللبناني في ظل تعذر ضبط هذه الظاهرة. ونحن نتحدث اليوم عن شبكات منظمة، الأمر الذي دفع بنقيب الصيادلة إلى رفع الصوت عالياً بعد أن أصبحت تهدد صحة المريض.
4- الديون المتراكبة للشركات العالمية في المصرف المركزي. فهذه الأدوية وصلت إلى لبنان وبيعت على السعر المدعوم، إلا أنه لم يتم دعمها بعد وقيمتها تفوق 300 مليون دولار حالياً. وهذه النقطة بحاجة ماسة إلى علاج، لأنه مثل السيف المصلت على رقبة شركات مستوردي الأدوية،وفي حال عدم دفع هذه الديون أو في حال إعلان لبنان عدم قدرته على دفعها، قد تنسحب هذه الشركات العالمية على الأرجح من السوق اللبناني.
كما أن عدم تسديد هذه الأموال قد يؤثر على الشركات والمعامل الخارجية التي تتردد اليوم في إرسال الكميات خوفاً من زيادة الديون وتفاقم الأزمة أكثر.
إيلاء أولوية للقطاع الصحي
ويعترف جبارة أن حل معضلة القطاع الصحي والدوائي يدخل ضمن حل المشكلة المالية ووضع خطط للخروج من عنق الزجاجة. وكما يعرف الجميع مشكلة الدواء ليست تقنية أو طبية، وإنما مالية بحت، نتيجة عدم توفر أموال لدعم الجهات الضامنة أو لاستيراد أدوية بسعر مقبول، ودفع الديون لدى الشركات العالمية...
إذاً، العلاج يجب أن يكون أولاً ضمن الحل الشامل للبنان، كما يمكن إيلاء الأولوية لبعض الأمور الأساسية مثل دفع الديون للخارج (من خلال سحب بعض الأموال من صيرفة ودفع بعض المستحقات المالية). أما بالنسبة إلى الأدوية المهربة، فيمكن السماح لبعض المستوردين استيراد الدواء على سعر غير مدعوم لتغطية حاجة كل السوق وتأمين بديل مضمون وآمن للمريض بدل اللجوء إلى أدوية مهربة ومزورة وغير آمنة، كما هي الحال اليوم، في المقابل نطالب القوى الأمنية بالتشدد أكثر على المعابر الحدودية منعاً للتهريب.
وتحاول وزارة الصحة منعاً للتزوير السماح للمستورد باستيراد دواء غير مدعوم لتغطية الفارق بين المدعوم وغير المدعوم، شرط اعتماد نظام تتبع الدواء. وقد سمحت الوزارة حتى اليوم بـ15 دواء وقد تزيدهم مع الوقت، علماً أنه يجب أن تشمل مئات الأدوية في هذا المجال.
كذلك من الحلول التي يجب العمل عليها زيادة مداخيل الجهات الضامنة، لأن النظام الصحي يعتبر مهماً، ويجب الحرص على عدم ومنع انهياره بالكامل.
ويضيف جبارة أن "الليرة اللبنانية خسرت حوالى 70-80 في المئة من قيمتها، وبالتالي الناس التي تتقاضى بالدولار وحدها القادرة على العيش. وعليه نحن بحاجة للحديث جدياً بتحسين الخطة الاقتصادية - المالية حتى يخرج القطاع الصحي من أزمته ونعطيه الأولوية.
وعن القيمة المالية التي يجب تأمينها لإنعاش القطاع الصحي، يرى جبارة أن "قبل الأزمة كان المصروف الصحي حوالى 3-4 مليارات دولار، لذلك لا بدّ من تأمين مبالغ موازية أو أقله 3 مليارات دولار وتأمين إمكانيات سواء لدى الجهات الضامنة أو الناس القادرين على الدفع لتغطية تكاليف المليارين ونصف أو 3 مليارات دولار للنظام الصحي بعد الانهيار الحاصل.
في المحصلة، نتحدث منذ سنتين عن الأزمة الدوائية والصحية التي تعصف بالبلد منذ انهيار الليرة والأزمة الاقتصادية التي ازدادت تعقيداً. نتحدث عن مرضى خسروا حياتهم بسبب عدم قدرتهم على الدخول إلى المستشفى، نتحدث عن أدوية مزورة تدخل لبنان من دون أن يُحاسب أحد، فهل نشهد انفراجاً في ملف الأدوية في العام 2023 أو سنسمع بكوارث صحية أكبر لم يشهدها لبنان حتى في أيام الحرب؟