مع ارتفاع كلفة المعاينات الطبية، باتت نساء كثيرات يقصدن مراكز طبيّة تابعة لجمعيات محلية أو منظمات دولية أو مستشفيات حكومية من أجل الحصول على الرعاية الصحية اللازمة. وشهدت عيادات القابلات القانونيات زيادة مطّردة في الولادات ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل الأزمة، وهذه الزيادة تعكس تأثير الأزمة الاقتصادية على اللبنانيين وخصوصاً فئة المرضى والحوامل.
هذه الزيادة تؤكدها أكثر من قابلة قانونية تعمل في المناطق اللبنانية، وباتت تشمل الطبقة الوسطى والفقيرة بعد أن كانت محصورة بالأخيرة فقط.
ولا شك في أن الأوضاع الاقتصادية والمالية مع ما سبقها من الحجر الكامل والجزئي بسبب وباء #كورونا أثرت بوضوح على الخدمات العيادية
والزيارات الطبية عند النساء. هذا ما يؤكده الاختصاصي في الجراحة النسائية والتوليد، ورئيس مجموعة صحة المرأة العربية الدكتور فيصل القاق لـ"النهار".
إن غياب الإحصاءات الدقيقة يحول دون إثبات هذه الحقيقة بالأرقام، إلا أن نسبة المعاينة والاستشارات الطبية في العيادات النسائية تشير إلى هذا التراجع الواضح.
ويرى القاق أن "تراجع الزيارات المرتبطة بالحمل، نسبته أعلى في المناطق الريفية وتحديداً في الأطراف ممّا هو عليه في المدن، ويعود ذلك إلى الضيق المادي، وصعوبة الوصول وكلفة الوصول إلى الخدمة.
أما بالنسبة إلى الزيارات الأخرى غير المرتبطة بالحمل، فيوضح القاق أنه "بالاستناد إلى التقارير العالمية والمحلية، نلاحظ انخفاضاً في زيارات النساء العادية كالمعاينة السنوية وإجراء الفحوص المتعلقة بالتقصّي مثل فحص "الزجاجة" والصورة الشعاعية للثدي.
وهذا الانخفاض جاء نتيجة ملاحظة عالمية تفيد أنه نتيجة الأزمات تعاني خدمات صحة المرأة أكثر مقارنة بالخدمات والمشاكل الصحية الأخرى، ويعود السبب إلى غياب الاهتمام والدعم لهذه الخدمات الأساسية، بالإضافة إلى أن المرأة تعتبر أن هموم العائلة والهموم الاقتصادية لأسرتها أهم من صحتها الشخصية. وبالتالي تضحّي المرأة بصحتها الشخصية مقابل أمور أخرى أكثر إلحاحاً بنظرها. وهذا الأمر أدّى ويؤدّي إلى تراجع الخدمات الصحّية التي تنعكس سلباً على صحة المرأة.
هذه الأزمة الاقتصادية والمالية دفعت بالعديد من اللبنانيين للجوء إلى الرعاية الصحية عند حدوث حالات طارئة فقط أو في حالة المرض الشديد.
وعليه يؤكد القاق أننا "نشهد انتقالاً من القطاع الخاص، حيث تراوح كلفة المعاينة فيه بين 30 دولاراً إلى 70 دولاراً حسب الفحوص التي تُجريها العائلات اللبنانية والمرأة خاصة، إلى القطاع العام أي إلى مراكز الرعاية الأولية التي تقدّم الخدمات الأولية بكلفة مقبولة.
كذلك في الأرقام، ارتفعت كلفة الولادة الطبيعية بنسبة كبيرة وملحوظة، حيث تراوح الكلفة بين 500 إلى 800 دولار، فيما ترتفع أكثر الكلفة لتراوح بين 1500 إلى 2000 دولار للولادة القيصرية. وهذا الارتفاع الملحوظ خصوصاً مع ارتفاع سعر الدولار مقابل انهيار الليرة اللبنانية، دفع النساء للتوجّه إلى المستشفيات الحكومية أو المراكز الأولية التي يكون بعضها جيّداً والبعض الآخر سيئاً.
يضيء القاق على الإقبال الكثيف الذي تشهده المستوصفات ومراكز الرعاية الأولية والعيادات الخاصة، لأن الفاتورة الاستشفائية أصبحت مرتفعة جداً، خصوصاً عند الذين ليس لديهم تأمين خاص قادر على تغطية هذه الفروقات وحتى الطبقة الوسطى التي أصبحت تقصد هذه المراكز بعد الأزمة.
يضاف إلى ذلك أنه ليس هناك تحديث أو مواكبة من الصناديق الضامنة الأخرى التي كانت تغطي التكاليف الاستشفائية الجديدة، وبالتالي أصبحت التكاليف خيالية لدى البعض، ما دفعهم إلى التخلي عن المعاينة الطبية تماماً أو المتابعة عبر هذه المراكز الصحية الأولية التي شهدت تحسناً في مستوى تقديم الخدمات الصحية.
وبرغم الانهيارات الكبيرة لمختلف القطاعات نتيجة الأزمة، لم تُسجّل زيادة في نسبة الولادات في المنزل، بل زيادة في التوجه إلى عيادات القابلات القانونيات والمستشفيات الحكومية لأن الولادة تطلب إحالة إلى مراكز متخصّصة لما تحمله من مخاطر صحّية وأبرزها النزف أو مضاعفات ناتجة عن الولادة. ونعرف جيداً أن الولادة في المنزل تحمل مخاطر جدّية وهي بمثابة مخاطرة كبيرة قد تؤدي أحياناً إلى الوفاة.
ويقرّ القاق بأننا نواجه صعوبات وتحديات تصعب الإحاطة بها في بعض الأحيان، ولكن يجب الحرص على الحصول على الرعاية الصحية المطلوبة وتفادي أي مضاعفات صحّية، لأن بعض هذه المراكز قد يكون أقل كلفة ولكنه أيضاً يقدّم خدمات طبّية ونوعية أقلّ.
تعاني الخدمات الصحّية النسائية أكثر من غيرها نتيجة الأزمات، لذلك يجب دعم خطط الاستجابة للاهتمام بالصحة النسائية، وأن تكون الولادات ومتابعة الحمل وتقصي حالات السرطان من أولويات هذه الخطط.
زيادة ثلاثة أضعاف
لا توجد إحصاءات أو أرقام عن الولادات التي تحصل في العيادات نتيجة الأزمة، لكن بالاستناد إلى الحالات التي تقصد العيادات يمكن القول إن هناك تزايداً كبيراً في الولادات داخل عيادات القابلات القانونيات بنسبة ثلاثة أضعاف عما كانت عليه قبل الأزمة.
وتشير عضو نقابة القابلات القانونيات والقابلة القانونية ابتسام سيف إلى أن "بعض النساء يطلبن الولادة في العيادة لا في المستشفى لتجنّب الكلفة الاستشفائية المرتفعة، وفي السابق لم تكن هذه الظاهرة تشمل النساء اللبنانيات اللواتي يُعتبرن من الطبقة المتوسطة وكن يفضّلن الولادة في المستشفى، إلا أنهن اليوم يقصدن هذه العيادات لتوفير كلفة الولادة قدر المستطاع التي لا تتخطى 100 دولار فيما تبدأ في المستشفى بـ400 دولار وما فوق".
اليوم تفكر المرأة من الناحية الاقتصادية بشكل أساسي، وهذا ما يُفسّر ارتفاع أعداد الولادات في العيادات الخاصّة والمستشفيات الحكومية أكثر من المستشفيات الخاصّة.
وتتحدث سيف عن تقليص عدد الزيارات الطبية للمرأة الحامل حيث أصبحت تزور مرة طبيبها كل 3 أشهر بعدما كانت تذهب كل شهر لمتابعة حملها أو تستبدل زيارة طبيبها النسائي الشهرية بزيارة عيادة خاصة أخرى تقدّم الخدمات نفسها وباستشارة طبّية مطولة أكثر.
أما في حال وجود أي مشكلة في الحمل، فتُحوَّل الحامل إلى أحد المستشفيات المتخصصة لمتابعة حالتها تفادياً لأي مضاعفات صحية. وبالتالي تقوم القابلة القانونية بالمتابعة الشهرية للحامل من فحوص وصور، ومراقبة نبض الجنين ومراقبة فترة الحمل منذ البداية حتى الولادة، بالإضافة إلى الولادة الطبيعية، فيما تُحوَّل الحالات الأكثر تعقيداً أو الولادات القيصرية إلى المستشفيات.
وبحسب مقارنة أجرتها نقابة القابلات القانونيات بين عامي 2020 و2021، ارتفعت الولادات عند القابلات بنسبة 161 في المئة.
وتشير سيف إلى أن "الولادات اللبنانية إلى انخفاض، وقد لمسنا هذا التراجع نتيجة الأزمة الاقتصادية، فضلاً عن ارتفاع المعاينة الطبّية والأدوية المرافقة للحمل حيث تتخطى بعض فيتامينات الحمل مبلغ المليون ليرة. ونتيجة ارتفاع أسعار هذه المكملات الغذائية، أحاول تخفيف الكلفة من خلال وصف الأطعمة الغنية بالكالسيوم لتجنيب السيدة شراءه فيما لا مهرب من شراء الحديد والفيتامين د لتثبيت الكالسيوم".
30 في المئة يطلبن الولادة المنزلية
تؤكد إحدى القابلات القانونيات أن "هناك زيادة مطردة في الولادات عند القابلات القانونيات مقارنة بمرحلة ما قبل الأزمة، حتى إننا نشهد على زيادة في الولادات داخل المنازل. وحوالى 30 في المئة من النساء اللواتي يزرن مركز الرعاية الصحية التابع للوزارة يسألن عن إمكانية توليدهن في المنزل للتخفيف من أعباء الفاتورة الاستشفائية".
في أحد المراكز الذي كان يجهز ليكون دار توليد في طرابلس كانت كلفة الولادة الطبيعية في بداية الأزمة (سعر صرف الدولار 1800) لا تتخطى 200 ألف ليرة بينما كانت تصل إلى 500 ألف في المستشفى الحكومي. وهذا ما كان يفسّر الإقبال الكثيف للنساء مقارنة بما قبل الأزمة.
أعطت هذه القابلة القانونية النور لطفلين في المنزل، ولم تواجه أي مخاطر. ولكن الولادة المنزلية تحمل مخاطر صحّية جدّية مثل حدوث نزف، أو حدوث مضاعفات للجنين أو الأم. لذلك تتجنّب التوليد في المنزل وتطلب أن تكون الولادة في العيادات المجهزة أو المستشفيات الحكومية حسب حالة كل سيدة.
كذلك تلجأ بعض النساء إلى مراكز تابعة لمنظمات دولية تتحمّل تكاليف الولادة على نفقتها وتحويل السيدة إلى المستشفيات المتعاقدة معها في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
وتشدّد إحدى العاملات في أحد هذه المراكز على زيادة واضحة وكبيرة في لجوء السيدات اللبنانيات بنسبة 30 إلى 40 في المئة للاستفادة من الخدمات الصحية نتيجة عدم قدرتهن على دفع التكاليف وارتفاع الأسعار بشكل جنوني.