يُسجِّل لبنان نشاطاً لافتاً على صعيد تجارة الدواء غير الشرعيّ، التي تجري تحت أنظار المعنيّين من المسؤولين، من دون توجّه إلى ضبط السوق أو إيقاف بعض التجّار والمتورّطين في هذا الملف؛ فمن حقائب الدواء إلى تسويق مواقع بيع الأدوية وصولاً إلى تهريب الأدوية المدعومة ثم بيعها في السوق السوداء، تجري "التجارة بالأسوَد" على مرأى من الجميع من دون اكتراث بصحة المواطنين.
فالأدوية غير الشرعيّة، خصوصاً تلك التي تُعالج الأمراض الخبيثة والمستعصية لا يمكن السكوت عمّا تُشكّله من مخاطر.
هذه الأدوية التي تعتبر خلاصاً للمريض تحوّلت بفعل الأزمة الاقتصادية، وجشع التجار والمافيات، إلى سمّ يفتك بجسم المريض، لا يجد من يُكافحه، سواء من داخل المؤسّسات المعنيّة أم من خارجها، بل "يتواطأ" المعنيّ مع المافياوي لإفلات الأخير من المسؤولية. وبدل أن يُباشر المعنيّون مهمّاتهم بكل دأب ومهنيّة، نراهم يُعلنون للعامّة من الناس مواعيد دوريات التفتيش، لينجو كلُّ فاسدٍ من حَملِ المسؤولية.
فالتفتيش الصيدلي يُعلن موعد إطلاق حملته بحثاً عن أدوية مزوّرة قبل يوم واحد من موعدها، وكأنه إنذار مسبق لإخفاء المجرم "جريمته"، بعد أن استفحلت أزمة الدواء المهرّب، وبينما كانت قيمة سوق الدواء تبلغ حوالى مليار و200 مليون دولار سنوياً مع دعم سنوي بقيمة مليارين دولار في حين بلغت خلال ثلاث سنوات قيمة تهريب الأدوية بما يفوق 4 مليارات دولار.
يؤكّد الاختصاصي في أمراض الدم والأورام البروفيسور فادي نصر لـ"النهار" أن "نحو 25-50 في المئة من الأدوية المناعيّة لمعالجة السرطان مزوّرة وغير صحيحة، وهي تُعطى بالعِرق، ممّا يسمح لنا بفحصها قبل إعطائها للمريض في المستشفى. ونتيجة أزمة الأدوية، وما ترتب عليها من مشكلات وبدائل، تكون أحياناً غير صحيّة، ومزوّرة أو منتهية الصلاحية".
ويُضيف أن "مصدر هذه الأدوية المزوّرة في أغلب الأحيان تركيا وسوريا. وقد كشفت لنا بعض الفحوص والمراجعات الطبية والمخبرية أن بعض هذه الأدوية كانت غير مطابقة للدواء الرئيسيّ، وهي مزورة أو ملعوب بها، أو كناية عن ماء وملح، ممّا دفعنا إلى إجراء فحوص ومراجعات للشركة الأم قبل إعطائها للمريض في المستشفى.
لكن المشكلة الكبرى تكمن في أدوية الحبوب التي يشتريها المريض من دون فحصها أو معرفة درجة الأمان والسلامة. فنحن لدينا القدرة على متابعة ما يدخل إلى المستشفى ولكن "الشنط" التي تُسلّم باليد إلى المريض في منزله لا نعرف عنها شيئاً".
من جانبه، يوضح رئيس جمعية "بربارا نصّار لدعم مرضى السرطان" هاني نصار بأن تجارة وتهريب الأدوية المزوّرة من بعض الدول أو تلك المدعومة وبيعها من جديد في السوق السوداء ستبقى ناشطة نتيجة عدم القدرة على تأمين الكمية المطلوبة لتكفي كلّ المرضى، وهي اليوم تكفي نحو 60 في المئة منهم.
وتتجلّى خطورة الموضوع في دخول أفراد من قطاع الصيدلة في حلقة الفساد، حيث يقوم البعض ببيع الدواء للمريض بضعف سعره الرسميّ لتحقيق أرباح أكبر. ولقد أبلغتني إحدى المريضات بأنها اشترت علبة دواء بـ900 ألف ليرة من الصيدلية، علماً بأن سعرها لا يتعدّى الـ180 ألف ليرة؛ والسبب الذي دفعها إلى دفع المعلوم هو حاجتها إليه بالرغم من الاستغلال الحاصل اليوم.
في المقابل، يؤكّد البروفيسور نصر أن "الأدوية المزوّرة تحمل آثاراً سلبية وجانبيّة على صحة المريض. أما في حال لم يتناول المريضُ الدواءَ فإن المرض يتطوّر بطريقة سريعة وخطرة. لذلك يكمن الحلّ في تأمين دواء فعّال وبطريقة شرعيّة تُجنِّب المريض المخاطرة بصحته"، لافتاً إلى أن "أكثر أنواع الأدوية التي تكون مزوّرة هي الأدوية المناعيّة التي تعتبر باهظة الثمن وأساسية في بروتوكولات العلاج".
ما يتحدّث عنه نصر يُشاركه إيّاه نقيب الصيادلة جو سلوم. برأيه أن "الأدوية المهرّبة بمعظمها مزوّرة، أو منتهية الصلاحية، أو مخزّنة بطريقة خاطئة؛ وبالتالي القصّة ليست في أن هذه الأدوية غير فعّالة، وإنّما الموضوع أخطر من ذلك، لأنها قد تؤثر على حياة المريض. وعلى سبيل المثال، أدوية السرطان التي تكون مزوّرة أو كناية عن ملح وماء تؤثر على تطوّر الورم ومساره، وهذا ما دفعنا إلى إطلاق حملة التفتيش الصيدلي بالتعاون مع وزارة الصحة".
يشدّد سلوم على أن "الصيدليات لا تبيع إلا أدوية صحيحة وأصلية وبالسعر الرسمي، ولكن البحث اليوم يجري في المستوصفات غير الشرعية والدكاكين والسوق السوداء ومواقع الأونلاين التي تهدف إلى ترويج تجارة الأدوية المهرّبة. وعلينا أن نعرف أنّ وراء تجارة الأدوية المزوّرة شبكات تعتبر الأخطر في العالم".
ويشير سلوم إلى أن "الدواء التركي يُشكّل النجم الأكبر في الآونة الأخيرة، بالإضافة إلى الأدوية التي تأتي من إيران، تركيا، سوريا، الهند.. وهذا التزوير يطال مختلف الأدوية، ويبقى دواء السرطان الأساس بسبب تكلفته العالية"، موضحاً بأن "نقابة الصيادلة تلقت شكاوى عديدة من مواطنين وقعوا ضحيّة هذه الأدوية المزوّرة بعد شرائها من أحد التجار أو من السوق السوداء...لكن التزوير يصعب كشفه في ظلّ غياب المختبر المركزيّ. ولا يجدي نفعاً سعي بعض المستشفيات الكبيرة إلى التدقيق بهذه الأدوية من خلال مختبراتها وتنسيقها مع الشركة الأم، لأن هذه الجهود تبقى محدودة بإطار الحالات الخاصّة، فيما المطلوب علاجاً وطنياً للموضوع".
اليوم نواجه أكثر من أزمة، أوّلها أزمة الثقة بالدولة والتجار الذين يتاجرون بأرواح الناس، ولا يوفّرون الأدوية المزوّرة والمنتهية الصلاحية، في الوقت الذي لا نجد أحداً يتحرّك لإيقاف تاجر أو محاسبة أحد السماسرة بسبب ما يفعلونه بحياة المرضى. لذلك يسعى المريض اليائس إلى اللجوء لأدوية السوق المهرّبة، لأنه فقد الأمل بكلّ ما يخص السلطة اليوم.
وطالما أن ملفات الفساد ما تزال نائمة في أدراج القضاة، ومنها ملف منى بعلبكي، فستبقى أرواح الناس معلّقة بحبال الهواء إلى أجل غير مسمّى!