تصارع ريم، ابنة الـ28 عاماً، سرطان الثدي منذ 3 أشهر. هذا التحدّي الذي تخوضه اليوم يزداد صعوبة، وتزداد معه خوفاً وقلقاً بسبب الانقطاع الفاضح في الأدوية المخصّصة لعلاج السرطان، كأنّه لا يكفيها ما تُعانيه من تخبّط وصراع بين رغبة الحياة وهاجس الموت.
لا تخفي ريم أن ما تعيشه اليوم موجعٌ بذاته وتداعياته وآثاره على الصحة النفسيّة والجسديّة، فتقول "من كان يتصوّر أننا سنستجدي حبّة الدواء التي من المفترض أن تنقذنا من هذا الخبيث، الذي ظهر فجأة في حياتي؟ مَن كان يتصوّر أن يضطرّ مريض السرطان إلى أن يفكر في كيفية تأمين أدويته لتفادي أيّ انتكاسة أو مضاعفات، وهو يعاني ما يعانيه من آثار العلاجات المنهكة والمتعبة؟".
لم تكن ريم تتصوّر أن يصل مريض السرطان في لبنان إلى حدّ الاستغاثة بأيّ شخص للعثور على أمله، ويحاول أن يبقى متماسكاً؛ لكنّه في بلد مثل لبنان باتت فرص النجاة ضئيلة.
رغبتها في الحياة أقوى من الخبيث. تُعيد تكراراً "لا أريد أن أموت بل أن أعيش، ولن أدع السرطان يتغلّب عليّ، ولكنّني أجد نفسي عاجزة أمام ما يجري من انقطاع مخيف لأدوية السرطان. صحيح أنّني محظوظة، وما زلت قادرة على تأمينها من خلال أصدقاء وأقارب في الخارج من تركيا وأميركا وغيرها، ولكن ماذا عن باقي المرضى؟ ما ذنبهم إن لم يجدوا من يؤمّن لهم أدويتهم التي تعدّ أملهم في الشفاء والنجاة؟"
تعاني ريم حالة هلع وخوف من عجزها عن تأمين أدويتها في يوم من الأيام، لاسيّما إبر المناعة، حتى لو من باب الشركة التي تستغرق وقتاً طويلاً لتوفيرها، في وقت يجد المريض نفسه اليوم محكوماً بأدوية بديلة، إذ يُضطرّ إلى حقن نفسه 5 مرات عوض مرّة واحدة.
تؤكد ريم نحن "نحارب لنعيش، وكلّ ما يجري اليوم من عراقيل وصعوبات لا يساعدنا في هذه المحنة الصحيّة. ليس على مريض السرطان أن يقلق بشأن أدويته أو القطاع الصحيّ المنهك، ولكننا نجد أنفسنا مرغمين وغارقين في تفاصيل صغيرة، لكنّها أساسيّة في علاجاتنا. تساؤلات كثيرة ترافقني، هل ستبقى أدويتي مؤمّنة؟ ماذا لو لم يعد بإمكاني شراؤها أو تأمينها؟ ماذا عن الجراحة التي من المفترض الخضوع لها بعد العلاج؟ تكلفة الإبرة الواحدة مليون و400 ألف، في حين بلغت تكلفة الفحوص المخبرية 5 ملايين ليرة".
في رأي ريم "أصبحنا نشحذ أدويتنا التي من المفترض أن تكون موجودة؛ ما نتعرّض له من إذلال وقلق، كلّ ما نطلبه من المعنيين إيجاد حلول سريعة ومستدامة. لا نريد شيئاً سوى أن نعيش".
الكلّ مجرمون. نعم، من صغيرهم إلى كبيرهم. كلّ من يقطع الدواء عن مريض يصارع أمراضه، لاسيما الخبيثة منها، هو مجرم وقاتل. أنتم مجرمون لأنكم تحرمون الناس من تلقّي علاجاتها التي تحدّد مسار شفائها وانتصارها على المرض. أنتم مجرمون، ودعوات الناس لن تذهب سدى. من حقها أن تغضب، وأن تطالب بالحق، فحياتها معلّقة بين جشع المال والتجاذبات السياسية والتجارية. بئس هذه السلطة وبئس الضمائر!
في كانون الأول 2016، انقطعت بعض أدوية السرطان بشكل كلّي في مركز الكرنتينا، وتكرّرت الأزمة في العام 2017، حين شهدنا انقطاعاً زمنياً في تأمين الأدوية بسبب بعض الإجراءات المتّخذة في الوزارة. يعود السبب الرئيسيّ إلى نفاد أموال الوزارة المخصّصة لشراء الأدوية، بالإضافة إلى خفض مخصّصات الأدوية لـ#وزارة الصحة في العام 2017 بنحو 6 مليارات ليرة.
لكن ما كان متقطّعاً بات واقعاً متفاقماً يزداد سوءاً، إذ يواجه الأطباء كما المرضى انقطاعاً شبه كامل للأدوية الأساسية المخصّصة للأمراض كافة، لا سيّما الأمراض السرطانيّة. والحديث عن ترشيد القطاع الدوائيّ بات معزوفة مكرّرة من دون أن يتكبّد أحد عناء تطبيقها ومراقبتها على الأرض. بدأت أصناف عديدة من الأدوية، ومن ضمنها تلك المخصّصة لمكافحة السرطان، تنفد من المستشفيات والصيدليات، ومعها بدأ المرضى يعيشون هاجس الخوف والقلق من مضاعفات المرض.
لم يعد ينفع إطلاق صرخات التحذير والاستغاثة. نريدُ حلاً ينقذ حياة آلاف المرضى الذين يُصارعون السرطان في بلد أدويته مقطوعة، وقطاعه الصحيّ يُستنزف، والجدل العقيم بين الدعم ورفع الدعم يواصل جولاته. وما يشهده رئيس قسم أمراض الدم والسرطان في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت البرفسور ناجي الصغير يومياً في عيادته، والاتصالات التي لا تهدأ من مريضاته، يصعب أن يمرّ مرور الكرام؛ هو، الذي يتحدّى هذا الخبيث، يجد اليوم أن انقطاع الأدوية قد يهدّد حياة مريضاته، فيما الانتصار على السرطان بات محكوماً بأدوية مفقودة لا تجد سبيلاً إلى لبنان.
حاولت المستشفيات الجامعية الكبيرة إيجاد حلّ وسط تفاقم الأزمة الدوائية، وعرضت "استيراد الأدوية لمرضاها بشكل مباشر، ولكن وزارة الصحة لا تقبل بيعه إلا بالسعر الرسمي، الذي يُعتبر أقلّ بكثير من التكلفة التي سيتم دفعها من المستشفيات لتأمين الأدوية من الخارج.
يدفعُ المرضى ثمن الخلافات والتباينات بين مصرف لبنان من جهة والمستوردين من جهة أخرى. فالمصرف أعلن بالفم الملآن عدم قدرته على الاستمرار في سياسة الدعم وقدرته على تأمين 50 مليون شهرياً، في حين يتعذّر على وزارة الصحة والمتسوردين تأمين احتياجات السوق بهذا المبلغ المحدود. وكان مصرف لبنان قد أبدى استعداده لدفع فواتير الأدوية التي تحتاج إليها وزارة الصحة على أساس وصفات طبية لكلّ المرضى الذين يريدون الدواء من وزارة الصحة والجهات الضامنة.
ويشير الصغير إلى أنه "قد ننجح في الحصول على تعهّد من مصرف لبنان بتغطية فواتير الأدوية لمرضى السرطان الذين يعجزون عن تأمين أدويتهم، وترك الباب مفتوحاً أمام شركات الأدوية للاستيراد بسعر السوق. ما يهمّنا اليوم تأمين الأدوية لمرضى السرطان لأن حياتهم بخطر. ما يعانون من شحّ أو انقطاع للأدوية يؤدّي إلى تقصير أعمارهم وتقليل فرص الشفاء نتيجة الأزمة المستفحلة. لذلك نحن مع دعم المريض، وقد يكون دعم المريض بشكل مباشر أنجح من دعم الاستيراد بفواتير مفتوحة".
نحن نتحدّث عن آلاف مرضى السرطان، إذ يُسجّل سنوياً حوالي 18 ألف إصابة جديدة، بالإضافة إلى المرضى الذين يحاربون السرطان منذ سنين. وبينما يعاني لبنان منذ شهور أزمة عقيمة ومعقّدة في القطاع الدوائي، بالإضافة إلى أزمة تهريب الأدوية المدعومة، إلا أن هناك أدوية تمّ استيرادها من قبل بعض وكالات الأدوية بأسعار مدعومة، ويُقال إنها ما زالت في مستودعاتهم حتى يتمّ بيعها في المستقبل بسعر السوق.
وعن أهمّ أدوية السرطان المقطوعة، يُشدّد الصغير على "انقطاع شبه كامل للكثير من أدوية السرطان التي يتمّ إعطاؤها عبر الوريد أو بالإبر في العضل أو تحت الجلد أو كحبوب، ومنها دواء دوكسوروبيسين، فينكريستين، فينبلاستين، بمبروليزوماب، وايكزيميستان، وهي أدوية أساسية وعدم تناولها يجعل شفاء المرضى متعذّراً. نحن نتحدث عن قسم كبير من المرضى في عمر الشباب، وخضوعهم للعلاجات يتسبّب بانخفاض المناعة وحدوث التهابات، وبالتالي يحتاجون إلى تلقّي مضادات حيويّة مقطوعة".
وما يُحزن أننا "نجحنا في تحقيق تقدّم كبير في معالجة السرطان لكننا عاجزون الآن عن تأمين الأدوية الأساسية، وباتت حياة المريض وفرص شفائه أو إطالة عمره مهدّدة بالتقصير نتيجة الأزمة الدوائية التي طالت، من دون إيجاد حلّ يُرضي كلّ الأطراف، ويعمل لمصلحة المريض أولاً وآخراً. أصبحنا نلجأ إلى أدوية بديلة أقلّ فاعليّة من الأساسية لمعالجة المرضى، وهذا يؤثر سلباً، وقد يقصّر أعمارهم سنتين أو ثلاثاً، إلا أننا لا نملك حلاً آخر في ظلّ فقدان هذه الأدوية بشكل مستمرّ".
نحن لا نتحدّث فقط عن أدوية السرطان، فثمّة أدوية عديدة لأمراض القلب والسكّري والكوليسترول مقطوعة، والمرضى لا يتناولون أدويتهم بطريقة منتظمة، ما يؤدي إلى زيادة مخاطر الإصابة بالجلطات القلبية أو النزيف الدماغي والمضاعفات الصحيّة المستقبلية. نحن لا نتحدّث عن خطر قريب إنما عن خطر مستقبليّ يرافق هؤلاء المرضى، ونحتاج إلى حلّ سريع، لأن التحذيرات الطبّية وصرخات المعنيين غير كافية لوحدها لمعالجة الأزمة.
ويستشهد الصغير بحالة مريضة صغيرة العمر تعاني سرطاناً بالثدي. و"لأن أملها في الشفاء كبير، ولأنها صغيرة في السن، طلبنا منها اللجوء إلى تجميد البويضات لتستطيع لاحقاً تحقيق حلم الزواج والأمومة. لكن للأسف، أن الأدوية المحفّزة مفقودة".
ويختم الصغير بمناشدة المعنيين "إيجاد حلّ سريع، لأن الأزمة خطيرة، ولا يُمكن الاستمرار على هذا المنوال، فصحّة الناس في دائرة خطر. ألا يكفي المرضى عذاب السرطان والهواجس التي يعيشونها والمضاعفات الناتجة من العلاجات؟ هل نحرمهم من أمل الشفاء فلا نؤمّن لهم الأدوية؟ هذا عذاب نفسيّ كبير للمريض، وغياب الأدوية على اختلافها من شأنه أن يقصّر أعمارهم أو يقلّل من نسبة الشفاء".