منذ نحو شهر، بدأت الصيدليات تفرغ من مخزون الأدوية، فاشتدّ الخناق أكثر على المرضى، ولم يعد مستوردو الأدوية يسلّمون الصيدليات الشحنات الجديدة بانتظار تقلّبات الدولار الجنونيّة.
وكالعادة، يكون الحلّ الترقيعيّ خير علاج لمشكلة الأدوية المقطوعة. هي الدوامة نفسها، ندور في هذه الحلقة المفرغة فيما صحة المواطنين تتراجع تباعاً، والموت يقترب أكثر.
نحن لا نتحدّث عن سلعة تُباع أو تشترى في السوبرماركات، بل عن أدوية تُشكّل الحياة بالنسبة إلى المرضى، وانقطاعها تهديد لهم بالموت. لكن واقع الدولرة سيطال كلّ القطاعات على ما يبدو. وإذا كانت البداية مع القطاع الغذائيّ في السوبرماركات، فالموسى حتماً ستصل إلى قطاعات أخرى، منها المحروقات والأدوية.
التأجيل لا يعني الرفض. وما صرّح به منذ أيام نقيب الصيادلة بأنه "يفضّل الدولرة على رؤية المريض يموت أو يذلّ من أجل الحصول على الدواء" أكبر دليل على ما نحن مقبلون عليه، حتى لو كان القطاع الدوائي آخر القطاعات التي ستسلك هذا الخيار.
اليوم، وجد نقيب الصيادلة جو سليم نفسه أمام معادلة أخرى قد تحلّ أزمة الدواء موقتاً. وكما رُفع الدّعم عن الأدوية سابقاً، وأبقي على دعم بعض الأدوية السرطانية والمزمنة، سنشهد في الأشهر المقبلة، عندما يتّخذ القرار نهائياً، توجّهاً إلى دولرة الأدوية غير المدعومة لتأمين وصولها إلى المرضى.
لم يعد الأمر خافياً على أحد، فإصدار 3 مؤشّرات لأسعار الدواء يعني أنّه عاجلاً أم آجلاً سنكون أمام استحقاق الدولرة للأدوية غير المدعومة، ولا علاقة للأدوية المدعومة بهذا الموضوع.
وبانتظار حدوث ذلك، تتفاوت الآراء؛ فبينما رفض وزير الصّحة فراس أبيض في بيان صدر بالأمس دولرة الأدوية، باعتبار أن"الأمر سيحوّل الصيدليّات إلى محالّ صيرفة، ويجعل من القطاع الصحي في لبنان واحة للأغنياء في صحراء من الفقر"، رأى نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة أنه " في ظل التقلّبات الكبيرة للعملة الوطنية، أيّ حلّ يعتمد على العملة الوطنية يبقى جزئياً وموقتاً".
لكن ما هو المطلوب اليوم؟
نعود إلى بداية المشكلة المتجدّدة. توقّف عدد من الشركات والمستوردين عن تسليم الأدوية إلى الصيدليات التي علت صرختها بعد نفاد معظم أدويتها. وبعد أن كانت وزارة الصحة تصدر مؤشراً لأسعار الأدوية يومياً بالتوازي مع سعر الصرف، وبعد دعوة الصيادلة إلى الإضراب وإقفال الصيدليات إلى حين تسليمها الأدوية لتلبية حاجات المرضى بدورها، جاء الاتفاق بين الطرفين بطريقة توزيع الأدوية وتسديد الفواتير، لأن مرونة التسديد ستؤدّي إلى تحسّن كبير في توزيع الأدوية.
بالأمس، كانت المرة الأولى التي تُصدر فيها وزارة الصحة ثلاثة مؤشرات: الأول صباحاً على سعر 122000 ليرة لبنانية، ثم ما لبثت أن أصدرت ظهراً مؤشراً محدثاً على سعر 140000، لتصدر مؤشراً ثالثاً على سعر 118000 بعد الظهر.
تتلاعب الأرقام صعوداً ونزولاً كما تتلاعب الأزمة الاقتصادية بصحة المواطنين. وبالرغم من صعوبة الواقع، يؤكّد نقيب الصيادلة جو سلوم لـ"النهار" أن "لا دولرة للقطاع الدوائي في لبنان، وأن التوقيع جرى بالأمس مع الشركات المستوردة لتسليم الأدوية للصيدليات. وعليه، عادت الصيدليات إلى عملها بعد الاتفاق على إصدار أكثر من مؤشر في اليوم الواحد".
ويشير سلوم إلى أن "انقطاع الأدوية مرتبط بالسياسة الدوائيّة ككلّ، ومطلبنا كان تأمين هذه الأدوية بعد شهر على عدم تسليم الشركات لأيّ دواء. وبالتالي يتمثل الحلّ بتسليم هذه الأدوية مع صدور أكثر من مؤشر للأسعار وفق تقلّبات الدولار في السوق".
إلا أنّ ما توصّل إليه الطرفان (الصيادلة ونقابة مستوردي الأدوية) ليس بالحلّ الناجع أو الجذريّ. ومن يضمن عدم امتناع المستوردين والشركات عن تسليم الأدوية مجدّداً في حال شهدنا على تقلبات جنونية للدولار كما جرى في اليومين الماضيين؟
هذا ما يُعرب عنه بكلّ صراحة نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة في حديثه لـ"النهار، برأيه أنه "في ظلّ التقلبات الكبيرة للعملة الوطنية، أيّ حل يعتمد على العملة الوطنية يبقى جزئياً وموقتاً. وتبذل النقابات مع وزارة الصحة جهوداً كثيفة للمحافظة على تسعير الأدوية بالليرة اللبنانية، وإحدى هذه المبادرات ما تم توقيعه مع نقابة الصيادلة لإبقاء تسعيرة الدواء بالليرة اللبنانية".
لكن كلّ هذه الحلول - وفق جبارة - تبقى موقتة وجزئية إذا بقيت هناك تقلّبات مرتفعة يومياً مثل ما شهدناه بالأمس أو خلال الأيام الماضية. لذلك نحن أمام حلّين:
* الحل الأول: إما أن تقوم الدولة بواجباتها من خلال تحقيق الحدّ الأدنى من الاستقرار في سعر النقد، وأن ترتفع الأسعار بنسبٍ منطقيّة ويوميّة لا بطريقة جنونيّة كما حصل بالأمس، وبالتالي يصبح نظام التسعير بالليرة اللبنانية نظاماً قابلاً للتنفيذ والتطبيق.
* الحل الثاني: وإمّا أن تفشل الدولة اللبنانية في تحقيق استقرار جزئيّ لسعر النقد، فتصبح كلّ الجهود المبذولة اليوم غير مجدية، وغير نافعة مع التقلبات الكبيرة، وبالتالي قد تكون للأسف الدولرة هي الحلّ الأخير.
ويشدّد جبارة على أن الأدوية غير المدعومة مسعّرة اليوم من قبل وزارة الصحة، وعلى موقعها الإلكتروني تنشر لائحة بهذه الأدوية مع أسعارها بالدولار.
لكن كل هذه الحلول تبقى جزئية إذا بقيت التقلّبات جنوينة. وعليه، تقع المسؤولية أولاً على الدولة، ويجب عليها تحقيق استقرار جزئيّ لسعر النقد حتى تتمكّن القطاعات من تنظيم حالها جيّداً.
من جهته، يرى رئيس حملة "الصحة حق وكرامة" الدكتور إسماعيل سكرية أن "مستوردي الأدوية فرضوا إرادتهم على التسعير الدوائيّ. ونحن نعرف أن الأدوية موضوع حساس وإنساني، ويجب إبعاده عن كلّ الملفات الأخرى. ولا يخفى على أحد أن إصدار مؤشرات لأسعار الأدوية على سعر الصرف في السوق السوداء لا يختلف عن تسعيرها بالدولار. وبالتالي، سنصل في نهاية المطاف إلى دولرة الأدوية شئنا أم أبينا، وهي مسألة وقت".
ويعترف سكرية بأنها "المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذه الأزمة في القطاع الدوائي في لبنان. صحيح أن القطاع الدوائيّ مأزوم من وقت لآخر... لكن ليس بهذا الشكل المأساوي الفاضح. هناك مرضى غير قادرين على شراء الدواء نتيجة ارتفاع الأسعار أو انقطاعها".
في المحصّلة، وبعد أن أنفق لبنان نحو 8 مليارات دولار في السنوات الأخيرة لدعم أدوية كان معظمها يخزّن أو يُهرّب إلى خارج لبنان، وبعد رفع الدعم عن فئة كبيرة من الأدوية، تبقى الأنظار شاخصة إلى السلطات المسؤولة، والدعاء المرتفع أن "الله يساعد كل مريض في محنته".