بعد فضيحة "قرية المحبة والسلام" التي لم تتكشّف كلّ فصولها بعد، في انتظار انتهاء التحقيقات، خرجت إلى العلن فضيحة مدوّية مشابهة في "بيت اليتيم الدرزيّ"، والفظائع كانت تُرتكب في حقّ الأطفال والقاصرات طيلة سنوات، من دون أن يخرق صوت ضحيّة صمت المسؤولين والمجرمين هناك.
حال مؤسّسات الرعاية الإنسانيّة ليست في خير، القشور والمبادئ التي كانت ترسم معالم هذه المؤسّسات الخيريّة سرعان ما سقطت وظهرت الكوارث وحوادث الذلّ والتحرّش والعنف في حقّ الطفولة في مختلف المناطق اللبنانيّة. من يراقب هذه المؤسسات اليوم؟ من يتحمّل مسؤوليّة ما يجري في حقّ الأطفال من تعنيف وتحرّش واغتصاب وتزويج وإتجار؟ يسقط المجتمع اللبنانيّ اليوم في هاوية اللاأخلاقيّة والابتزاز والاستغلال بشكل مخيف، مقابل غياب فاضح لجهات كثيرة معنيّة بمراقبة وحماية الأطفال، بدءاً من مديرة المؤسّسة وصولاً إلى الجهات الرسميّة.
تكشف التسجيلات الصوتيّة المسرّبة فظاعة ما كان يجري داخل هذه المؤسّسة الرعائيّة. فوفق أحد التسجيلات "القضية ليس محصورة بالتحرّش والتعنيف وإنّما بالسرقة الممنهجة التي كانت تحصل طيلة تلك السنوات. المساعدات والتبرّعات التي كانت تصل إلى تلك المؤسّسة الخيريّة كانت تُسرق، والأموال التي كان يتبرّع بها بعض الأشخاص كان جزء كبير منها يُنهب، والفساد والظلم اللذان كانا يسودان ليسا جديدَين، وإنّما يعودان إلى سنين مضت، ولم يكن أحد يتجرّأ على رفع شكوى أو الاعتراض نتيجة الضغوط التي كان يُمارسها مسؤولو المؤسّسة".
نسبة الإجرام التي كانت تُمارس داخل بيت اليتيم الدرزيّ مخيفة ومقيتة، لا يمكن لعقل أن يستوعب الشهادات التي يتشاركها أطفال عانوا داخلها.
بطلان كسرا حاجز الخوف وهربا من الدار لتقديم شكوى ضد التعنيف والتحرّش الحاصلَين داخل المؤسّسة، لتكرّ بعدها السبحة من خلال شهادات أخرى لضحايا آخرين، وتكثر دائرة الاتّهامات مع أكثر من شخص ومتورّط في هذه القضية، من أعلى الهرم حيث كانت تتولّى ح. ن إدارة المؤسّسة، وتتستّر على كلّ الشكاوى والانتهاكات التي كانت تحصل، إلى المتّهم الأوّل ر. ذ الموقوف منذ 20 تموز، وأستاذ الرياضة في المؤسّسة هـ. ح الذي قُدّمت في حقّه شكاوى تحرّش واغتصاب، وصولاً إلى العاملين في المؤسّسة الذين امتهنوا تعنيف الأطفال وتجويعهم.
يختصر أحد التسجيلات بشاعة ما كان يحصل بالقول: "كان الأطفال يعيشون في سجن حيث يسود التعذيب والتعنيف والتجويع حياتهم. الطعام مسوّس ومنتهي الصلاحيّة، ولا يتذوّقون اللحمة والأطباق الأخرى إلّا إذا كانت هناك مأدبة لأحد المتبرّعين أو القادمين إلى المؤسّسة. الحفاظ على المظاهر كان همّ المؤسّسة، فيما المعاملة الحقيقية كانت سيّئة وقاسية بلا رحمة.
تولّى شخصان هما نادين بركات وأحمد ياسين فضح ما مكان يجري داخل هذه المؤسسة الرعائيّة، في ظلّ الضغوط الكبيرة للفلفة القضية وعدم إخراجها إلى العلن، للحفاظ على خصوصيّة البيئة الدرزيّة. ومن كان ينادي بالشعارات والتغيير وقع في فخّ طائفته، وكان من الأشخاص الذين يسعون إلى المطالبة بالحقّ بعيداً عن الإعلام والأضواء.
نبدأ مع الزميل أحمد ياسين الذي كان أوّل من كتب في الثّاني من آب على صفحته على "تويتر" عن فضيحة بيت اليتيم الدرزيّ، دون أن تلقى تغريدته التفاعل المطلوب. يتحدّث ياسين إلى "النهار" عن بعض المعطيات والوقائع التي حصلت في تلك الدار، حيث بدأت القصّة عندما هرب قاصران من بيت اليتيم الدرزيّ لتقديم شكوى في أحد المخافر عن عمليات تحرّش مستمرّة تعرّضا لها. وعليه، أوقفت أجهزة الدولة المتّهم ر. ذ منذ 20 تموز، وما زال حتّى الساعة موقوفاً بالاستناد إلى أدلّة موثوقة تُثبت صحّة الاتّهامات الموجّهة ضدّه.
ويوضح ياسين أنّه "نتيجة كسر حاجز الخوف عند القاصرَين، تشجّع أطفال آخرون على الإفصاح عمّا تعرّضوا له، ليتوالى بعض الشهادات لضحايا آخرين، عن تحرّش واغتصاب وتعنيف.
وللأسف، يُمارس عدد من فعاليّات المنطقة ضغوطاً على عائلة أحد الأطفال الذين تعرّضوا للتحرّش لسحب الدعوى، في محاولة للفلفة الموضوع وحصره بالمجتمع الدرزيّ بعيداً عن الأضواء.
يواصل قاضي التحقيق نادر منصور تحقيقاته، خصوصاً أنّ القضيّة أصبحت قضيّة رأي عام. وبعد تسجيل شكاوى عديدة في حقّ العاملين في المؤسّسة، وحسب الشهادات، تكرّر اسم الشخصين "ر. ذ" و "هـ. ح" والمديرة ح. ن بتورّطهم في قضايا عديدة أهمّها التعنيف والتجويع والفساد والسرقة وغياب الشفافية وتزويج القاصرات والاغتصاب والتحرّش.
ووفق ياسين "كانت ح. ن تسعى إلى توظيف عاملين يعانون من أوضاع معيشية صعبة جدّاً، وبرواتب ضئيلة لا تتخطّى المليون ونصف المليون ليرة، بغية السيطرة عليهم، من خلال استغلال حاجاتهم إلى المال. كما برزت أسماء موظّفَين آخرَين هما "غ. ش" و "ن. ح" بتهم تعنيف الأطفال المتواصل، وحرمان بعضهم من التواصل مع عائلاتهم".
ويشدّد على أهميّة عدم التصويب على مكان آخر، "نرفض إقفال الدار وإنّما العمل على محاسبة كلّ من شارك في هذه الجريمة بحقّ الطفولة لحماية الأطفال الآخرين، وضمان عدم الاستمرار في هذه الانتهاكات من دون محاسبة أو عقاب".
حتّى في مسألة الطعام، خضع الأطفال لعملية تجويع وحرمان، وتناقلت بعض التسجيلات أحاديث عن تناولهم "أرزّاً مسوّساً ومعلّبات منتهية الصلاحيّة. ولم يتذوّقوا طعاماً جيّداً إلّا عند تحضير وليمة لأحد زوار المؤسّسة".
توالت شهادات أطفال آخرين حول التعنيف وطريقة المعاملة السيّئة أو التحرّش، والتي نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعيّ.
تتحفّظ ممثلة الاتّحاد الوطنيّ لحماية الأحداث أميرة سكّر عن "مشاركة أيّ معلومة متعلّقة بالملفّ حفاظاً على سرّية التحقيقات. المعطيات باتت في عهدة القضاء، ونحن مؤتمنون على سير التحقيق، ونتابع الملفّ مع الجهات المعنيّة، ونحرص على المتابعة، ونرفض أيّ ضغوطات يمكن أن تحصل في أيّ ملفّ، ولم نشهد حتّى الساعة أيّ ضغوط في هذه القضية".
وتشدّد سكّر على زيادة العنف ضدّ الأطفال والجرائم المرتكبة في حقّهم في السنوات الأخيرة، ولاسيّما الاعتداء الجنسيّ، العنف المنزليّ، سوء المعاملة، المخدرات والجرائم. بالإضافة إلى ظهور أنواع جديدة من التعذيب، ما يستدعي الحاجة الملحّة للعمل على حماية حقوق الطفل بشكل فوريّ وسريع.
وأصدرت اللجنة تقريراً تتناول فيه الانتهاكات المسجّلة في حقّ الأطفال بين عامَي 2022-2023، وتبيّن أنّ هناك 35 حالة هروب لأطفال من منازلهم العائليّة، ما يعكس واقع ديناميّة الأسرة والعنف المنزليّ والإهمال والعلاقات المضطربة.
كما تمّ تسجيل 9 محاولات قتل، بالإضافة إلى تسجيل 68 حالة تعاطي مخدّرات عند الأطفال، والتي تُنذر بالخطر وتثير تساؤلات حول توافر وسهولة الحصول على الممنوعات.
كذلك كان لافتاً ارتفاع السرقات التي يرتكبها الأطفال إلى 248 سرقة، والتي تفرض البحث في الأسباب والدوافع التي تقودهم إلى السرقة.
أمّا بالنسبة إلى العنف المنزليّ والإساءة الجنسية، فيكشف التقرير ارتفاعاً واضحاً في الأرقام، حيث سجّل زيادة في العنف المنزليّ من 151 حالة إلى 227، والإساءة الجنسية من 71 حالة إلى 117.
وقد أثّرت الأزمة الاقتصاديّة على الاستجابة والتعاطي عند العاملين والمسؤولين، وكان لها أثر واضح وأساسيّ على ما يحصل في لبنان، وبالتالي كان للأزمة الاقتصاديّة دور في تفاقم ظاهرة العنف والانتهاكات الجسديّة، إلّا أنّها ليست مبرّراً لما يحدث.
وتتحدّث سكّر عن الأسباب التي أدّت إلى اكتشاف هذه الانتهاكات التي تستهدف الطفولة في المؤسّسات الرعائية الخاصّة بالأطفال، ومنها مشاركة التجارب والأخبار على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وإيصال الخبر بشكل أكبر وأوسع.
"يتواجد الأطفال حاليّاً مع عائلاتهم في العطلة الصيفيّة، ما يعني أنّهم في أمان، وستتمّ متابعتهم نفسيّاً وتقديم كلّ الدعم النفسيّ الذي سيحتاجونه فور انتهاء التحقيقات، وستكون وزارة الشؤون الاجتماعية معنية في هذا الملفّ".
وعن الخوف على أطفال لبنان، لا تخفي سكّر أنّ "الخوف اليوم على كلّ شخص ضعيف في لبنان (الشخص من ذوي الاحتياجات الخاصّة - الطفل - كبار السنّ...) لأنّنا عندما نصل إلى عجز المجتمع وعدم قدرة الدولة على احتضان هذا الإنسان، سيزيد الخوف على هذه الفئة المهمّشة".
من جهتها، أكّدت رئيسة لجنة السيدات لبيت اليتيم الدرزيّ ريما أرسلان ألّا "تهاون مع أيّ شخص تثبت إدانته ومشاركته في كلّ الانتهاكات المسجّلة في حقّ الأطفال. لقد كانت صدمة كبيرة عند معرفة بعض التفاصيل، خصوصاً أنّ المتّهم ر. ذ يعمل في المؤسّسة منذ 25 عاماً، وهو مسؤول عن الكاميرات في دار الصبيان فيها".
وأثنت على جرأة الأطفال في كسر الصمت لأنّه "من خلالهم بدأت تتكشّف أمور كثيرة لم نكن على معرفة بها. لذلك فالتحقيقات جارية اليوم، وسيكون هناك توسّع فيها، وسنتابع الموضوع حتّى النهاية، وسننشر أسماء المتورّطين فور انتهاء التحقيقات".