تشتدّ وتيرة الاشتباكات في لبنان ومعها يرتفع منسوب القلق والخوف من توسّع الحرب. حيث أنّ قسماً كبيراً من اللبنانيّين لم يُشفَ بعد من صدمات الماضي. أخبار الموت والقتل والدمار تلاحق الجميع، ولكن ما يشغل بالهم هو توريث الجيل الجديد، أي الأطفال والشباب، مآسي الحرب والخوف من الآخر، وعودة هواجس الماضي ولغة التخوين والترهيب.
من يحمي أطفالنا من كلّ هذا العنف؟ من يهدّئ نفوسهم من هواجس القلق والموت والخوف؟ من يُمسك بأياديهم ليخفّف عنهم أعباء هذه الحرب؟ الناس متعبة وتحتاج إلى من يخفّف عنها، فكيف تنقل للأطفال مشاعر الاضطراب وعدم الأمان والخوف من المستقبل؟
العائلة ومتاهة الحرب النفسيّة
تعيش عائلات كثيرة حالة من الضياع حول كيفيّة نقل الحقيقة إلى أطفالها، ويلجأ كثيرون إلى تصوير واقع أكثر سلماً من الواقع الذي نعيشه فعلاً. يحتار الأهالي في كيفية الحديث مع أبنائهم عن الحرب، فما يسمعونه ويشاهدونه يجعلهم قلقين ومرتعبين من كلّ ما يجري، فكيف لا يؤثّر الأمر على حياة العائلة ككلّ؟
منذ بداية شهر تشرين الأول 2023، قُتل أكثر من 100 طفل، وفقاً لوزارة الصحّة العامة اللبنانية، مع الإشارة إلى أنّ نصف عدد الوفيات بين الأطفال حدث في الأسبوع الماضي وحده. وتقدّر اليونيسف أنّ أكثر من 300,000 طفل نزحوا من منازلهم. وتفتقر الأسر النازحة إلى إمكانية الوصول إلى ما يكفي من مياه وغذاء وبطانيات ولوازم طبية وأساسيات أخرى. يعيش هؤلاء الأطفال الآن في كابوس، يتصارعون مع الخوف والقلق والدمار والموت، التي تنتج عنها صدمات نفسية قد ترافقهم مدى الحياة.
وهنا نطرح السؤال الأهمّ، كيف نتحدّث مع أطفالنا عن الحرب؟ وكيف نخفّف عنهم صدمات نفسيّة لإبعاد شبح الموت؟
قبل الحديث عن تداعيات الحرب على هذه الفئة، تُقسّم الاختصاصية في علم النفس ريما بجاني هذه الشريحة وفق الفئات العمرية، حيث تشمل الفئة الأولى الأطفال من الولادة إلى سنّ السابعة، والفئة الثانية من سنّ الثمانية حتى سنّ المراهقة، والفئة الثالثة من المراهقة إلى ما بعدها. ويمهّد هذا التقسيم لشرح الاختلاف في كيفية التعامل مع كلّ فئة.
ويضاف إلى ذلك أنّ هذه الشريحة الكبيرة من الأطفال يستوجب تقسيمها إلى المعرّضة للخطر المباشر، والّتي تُعتبر بعيدة عن الخطر ولكنّها تشاهد كلّ ما يجري، والّتي تعاني أثقال الحرب وتداعياتها.
تأثير ردود فعل الأهل على حياة الأطفال
ورغم هذا التنوّع والاختلاف في تلقّف تداعيات الحرب، تشدّد بجاني على أنّ "الأطفال يعانون من الحرب بغضّ النظر عن أعمارهم وما يمرّون به. وقبل الحديث عن تأثير الحرب على الأطفال علينا أوّلاً الحديث عن ردود فعل الأهالي تجاه كلّ ما يجري. ونعرف تماماً أنّ هذه الردود هي انعكاس واضح لتأثير ما يجري على حياة أبنائهم. ومن البديهيّ أن يشعر الأطفال على اختلاف أعمارهم بالقلق نتيجة القصف وما يسمعونه أو يشاهدونه، لكنّ الشقّ الأصعب يكمن في كيفيّة تعامل الأهل مع هذه الحرب".
وبما أنّ الأجيال السابقة اختبرت ويلات الحرب في الماضي، إذ لم يشعر اللبنانيون بفترة أمان طويلة كونهم يعيشون في منطقة نزاع مستمرّة، فهذا يُفسّر شعور اللبنانيين بالقلق الدائم من خطر حدوث شيء ما. وانطلاقاً من هذا القلق، يتمثّل الاختبار الأوّل للأهل في كيفية التعامل مع الحرب، وما ردّة الفعل التي تحدث لدى الأبناء نتيجة ذلك.
وتعترف بجاني أنّ "هناك فئة من الأهل تجد صعوبة في التعامل مع موضوع الحرب. وبدءاً من هذه الحقيقة على الأهل التصرّف بطريقة موضوعية من خلال الشرح للأطفال، عن واقع ما يجري بقول الحقيقة في الحدّ الأدنى، وإعطاء المعلومات حسب قدرات الطفل الاستيعابيّة، شرط عدم الكذب أو إخفاء الحقيقة بشكل كامل عنهم".
الحقيقة ولو في الحدّ الأدنى
في الأزمات كافّة، يعتبر القلق حالة نفسية ضرورية تفيد في حماية أنفسنا وتقدير الخطر.
ومن هذا المنطلق، تعتبر ردّة فعل الأهل أساسيّة في كيفية نقل هذه المشاعر إلى أبنائهم، مع إبقائها ضمن حدود تحريك مشاعر الحماية للذات والتنبّه إلى تقدير المخاطر.
وبالتالي، تكون العين وفق بجاني "مركّزة بشكل أساسيّ على الأهل قبل أن ننطلق للحديث عن مشاعر الأبناء. ومن المهمّ أن يعتمد الأهل على مصدر واحد لمتابعة الأخبار والمستجدّات بهدف تحديد الأمان ومعرفة كيفية التصرّف، وعدم الاستماع طوال الوقت إلى ما يجري، لأنّ ذلك يزيد من منسوب القلق والتوتّر، ويؤدّي إلى ضرر مباشر وآخر غير مباشر على صحّتهم النفسية".
هذه الحلقة متشابكة، هذا القلق ينتقل من الأهل إلى الأبناء، لذلك يجب العمل على الحدّ من انغماس الأطفال في متابعة أخبار الحرب، وحثهم على الاكتفاء بما يخبرهم الأهل به.
في مقلب آخر، يجب على الطفل، وفق هذه المعالِجة النفسية، "أن يعرف المجريات بالحدّ الأدنى، وبعد أن يعمل الأهل على ضبط هواجسهم والتعامل مع الصدمات النفسية السابقة ومشاعر القلق، ننتقل إلى المرحلة الثالثة في شرح الواقع للطفل. وثمة ضرورة في أن يشدد الأهل على أن ما يجري هو موقّت، وبثّ الطمأنينة في نفوس أطفالهم من خلال التكرار على مسامعهم أن الأمور ستعود إلى مجرياتها وأنهم سيعودون إلى حياتهم السابقة".
تناغم بين القول والفعل
وتشير بجاني إلى أهمية التناغم بين ما يقوله الأهل لأبنائهم وردود فعلهم حتى يثقوا بهم. وبالتالي، وفق بجاني، "يجب أن نشرح للأطفال الصغار عن الوضع الاستثنائي من دون الدخول في تفاصيل الحرب، بينما يمكن الحديث مع المراهق بطريقة واضحة أكثر، مع التشديد على وقوف الأهل إلى جانبه على الرغم من الحقائق التي تفرضها الحرب".
وللأسف، تترسخ في أذهان اللبنانيين أن الحرب تعود بأشكال مختلفة في لبنان، لذلك فكيفية تعامل الأهل مع الوضع وشرحهم له تحدد مستوى القلق الذي يمكن نقله لأطفالهم. صحيح أن العبء الأكبر يقع على الأهل. وتتحدّث بحاني عن ذلك مشيرة إلى أن المسؤولية الملقاة على الأسرة في هذه الظروف كبيرة ولكنّها تعتبر أساسية في تجنّب غرق الأبناء في هذه المرحلة المقلقة.
واتصالاً بذلك، تنصح بجاني بتأمين بيئة آمنة ومساحة معيّنة للترفيه والإنتاجية وتعزيز القدرات الذهنية إلى جانب اللهو والمرح في الحدّ الأدنى المسموح.
وبالتالي، في حال نجح الأهل في التعامل مع الوضع وفق النصائح المقدمة، فإنّ ذلك سيجنّب الأبناء توارث صدمات نفسية، حيث يحمل الطفل رواسب بسيطة أخفّ وطأة من تلك التي حملتها الأجيال التي عاشت الحروب السابقة في لبنان.
بالانتقال إلى صحة الطفل النفسية، نعرف جيداً كما تقول بجاني أن النزوح يزيد القلق عند الأطفال، فالطفل يترك سريره وغرفته وبيته ومحيطه. ويؤدّي العمر دوراً مهماً في التعامل مع القلق النفسي، فالطفل في عمر الـ 4 سنوات قد يعبّر عن خوفه من الظلام، لكنّ ذلك يخفي وراءه أمراً أكبر وهو الخوف من الابتعاد عن الأهل. وهذا القلق يظهر لاحقاً في عمر التسع السنوات، حيث نجد بعض الأبناء يرغبون في النوم إلى جانب الأهل. كذلك يمكن لأطفال آخرين أن يعيشوا هذا القلق في حال لم يتعامل الأهل معهم بطريقة صحيحة، لأنّ أكثر ما يبحث عنه الطفل هو الأمان والاستقرار.
علامات القلق النفسيّ عند الأطفال
أمّا عن علامات القلق التي قد تظهر على الطفل فهي متعدّدة، وقد تشمل:
- قضم الأظافر
- اضطرابات النوم
- التبول اللاإرادي
- العبث بالثياب أو تمزيقها
- البقاء الدائم إلى جانب الأهل
- الخوف من أيّ صوت قد يصدر
- البكاء والصراخ
- عدم التركيز
- عدم تناول الطعام أو الإقلال من ذلك.
وعبر ملاحظة هذه العلامات، يمكن للأهل أن ينطلقوا لمساعدة أبنائهم، مع الاهتمام بتحويل مشاعر القلق المكبوتة إلى كلام وتعابير معبّرة، حتى يتمكّن الطفل من التعامل مع هذا القلق. فبمجرّد تعبير الابن عن خوفه وقلقه يمكن للأهل مساعدته في التعامل مع هذه المشاعر وتقديم الحلول التي تبثّ فيه الأمان والاستقرار.
وفي الختام، تركّز بجاني على أهمية تأمين كلّ المستلزمات الضرورية من مسكن ومأكل وغيرهما من الأمور الأساسية للنازحين، ولكن يجب أن يُضاف إلى ذلك متابعة نفسية لتقديم كلّ الدعم المطلوب للتعامل مع كل هذه المتغيّرات بأقلّ ضرر ممكن.
ومن المهمّ أن نعي أن عدم الاستقرار يؤثر على صحتنا النفسية ويجب التعامل مع كلّ الصدمات النفسية بوعي حتى لا نورثها من جيل إلى آخر.