في أيار 2022 أصدر وزير الزراعة قراراً يمنع استيراد عقار الكوليستين في القطاع البيطري في لبنان، هذا القرار الذي جاء بعد 6 سنوات من النضال والجهود لإقراره، وبعد زيادة مقاومة المضادات الحيوية في لبنان بشكل واسع ومخيف، وقد سيكون خشبة خلاص من هذا الخطر الصحّي والآثار السلبية الناتجة منه. التحدّي اليوم في مراقبة وتطبيق هذا القانون وإلّا سيكون كغيره مجرّد حبر على ورق.
من ينسى فضيحة تفشّي بكتيريا مقاومة للكوليستين في سلسلة الغذاء، وفي البحر وحتى عند الأطفال في لبنان. وقد أدّى الاستخدام العشوائي لهذا العقار إلى انتشار جين mcr-1 المقاوم للمضادّات الحيوية، هذه الكارثة أرخت بظلالها في السنوات الأخيرة، حيث أظهرت إحدى الدراسات زيادة استخدام الكوليستين على البشر خمس مرات أكثر بين العامين 2012 و2017، فهل ينقذ القانون صحّة المواطن والحيوان والبيئة في دولة تعاني من شحّ الأدوية وصعوبة الاستشفاء وسوء مراقبة سلامة الغذاء؟
يشرح البروفسّور في مركز سلامة الغذاء في جامعة جورجيا في الولايات المتّحدة، عصمت قاسم الذي قاد حملة منع الكوليستين في لبنان أنّ "موضوع استخدام عقار الكوليستين ما زال يتفاعل في البلد، صحيح أنّ قانون منع استخدامه سيساعد حتماً في الحدّ من آثاره، ولكنّنا بحاجة إلى معرفة بعض الأمور لنكون على دراية بها.
وقد تكون الدراسة التي تناولت بعض المزارع في الجنوب، التي أجريت ونُشرت في مجلة Microbial Drug Resistance والتي تُعنى بمقاومة المضادات الحيوية، أفضل مثال على الواقع الذي نعيشه. وقد ركّزت هذه الدراسة على المزارع المنزلية التي لديها أنواع مختلفة من الحيوانات، ومن بينها الأبقار والأغنام والدجاج والحمام...
ويتحدّث قاسم عن الجزء المنشور في المجلة، حيث كشف الفحص وجود بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية في كلّ العيّنات، ولكنّ اللافت كان وجود بكتيريا مقاومة للكوليستين المتنقّل في الحمام، ما يعني أنّ هذه المقاومة متنقّلة من مكان إلى آخر ومن بكتيريا إلى أخرى. هذا الجين الذي يُطلق عليه جين الـMCR تجعل البكتيريا متنقّلة، والمفارقة أنّ عدد الحمام في هذه المزرعة نحو 250، وهذا ما يتطلّب منّا التوقّف والتفكير ملياً بما يعنيه ذلك لمقاومة المضادات الحيوية والتلوّث البيئي.
والسؤال المشروع والبديهي بعد هذه النتائج، خصوصاً أننا نتحدّث عن مزرعة صغيرة، كيف وصلت هذه البكتيريا إلى الحمام مع الجين المقاوم للكوليستين؟ برأي قاسم أنّه "من المرجّح أنّ السبب يعود إلى التلوث البيئي في لبنان، وبما أنّ الحمام يطير من مكان إلى آخر من المرجّح أنّه نقل هذه البكتيريا معه، الأمر الذي سيؤدّي إلى نقل البكتيريا المقاومة إلى الحيوانات الأخرى التي بدورها قد تنقلها إلى البشر. كما أنّه سيؤدّي إلى تلوّث أمكنة أخرى يتوجّه إليها الحمام نتيجة انتقاله الدائم، ما يعني أنّه ينقل التلوث معه أينما توجّه سواء في النهر أو قنوات الريّ أو البحيرات أو المحاصيل الزراعية أو السيارات...
إذاً، هذه الدراسة تختصر في عيّنة صغيرة مدى مشكلة التلوث البيئي ومقاومة المضادات الحيوية في لبنان، خصوصاً أنّ جرثومة الـ E-Coli الحاملة للبكتيريا المقاومة للكوليستين هي جرثومة مرتبطة جينياً بالسلسلة الغذائية، فهي تنتمي إلى سلالات تؤثر على الأغذية، أي يمكنها أن تنتقل من خلال الطعام.
ويتوقف قاسم في هذه الدراسة على الجين MCR-1.26 الذي تمّ رصده في العيّنات وهو أوّل مرّة يُبلّغ عنه في لبنان، وعادة كنّا نلاحظ وجود جين MCR 1. ووفق التقارير العالمية، يوجد جين MCR-1.26 في عيّنة معزولة عند مريض في أوروبا. ماذا يعني ذلك؟ أنّ هذه البكتيريا مع هذا الجين يمكن أن تؤثّر على سلالة الغذاء وعلى البشر.
وبالعودة إلى قرار منع عقار الكوليستين في لبنان، يؤكّد قاسم أنّه "منذ العام 2017 وبعد الأبحاث التي أجريناها اكتشفنا وجود مقاومة للكوليستين بشكل واسع في بعض المزارع اللبنانية، حتى في مزارع الأسماك وعند الأطفال ومخيّمات اللاجئين السوريين، علماً أنّه لا يجب أن يكون جين MCR واسع الانتشار. ومنذ ذلك الوقت، بدأنا نرفع الصوت لمنع الاستخدام العشوائي للكوليستين في المزارع اللبنانية.
كذلك، أظهر أحد الأبحاث أنّ استخدام الكوليستين على البشر ازداد بين عامي 2012 و2017 نحو 5 مرات. وهذه الزيادة وفق قاسم تعني "أنّ هذه الأمراض بحاجة إلى الكوليستين، وفي حال فشل الكوليستين لن يكون هناك علاج آخر لهؤلاء المرضى الذي بلغ عددهم تقديريّاً 6 آلاف مريض في العام 2017. وكما بات معروفاً الكوليستين هو الفرصة الأخيرة أو الملاذ الأخير في علاج أمراض مستعصية لبعض المرضى.
عقار الكوليستين الذي يُستخدم لعلاج بعض المرضى نستخدمه في مزارع الحيوانات في لبنان، وهذا ما دفع بقاسم إلى رفع الصوت لمنع الاستخدام العشوائي للكوليستين منذ العام 2018. وقد أثمرت الاجتماعات الكثيفة والجهود المبذولة طوال السنين الأخيرة إلى إصدار قرار منع استخدام الكوليستين في القطاع البيطري في لبنان في 15 أيار 2022.
ويصف قاسم هذا القرار "على أنّه فوز للبنان، لأنّنا لا نتحدّث فقط على حفظه واستخدامه للبشر، بل نتحدث أيضاً على صحّة الحيوان والتلوّث البيئي وسلسلة الغذاء. وعليه، يعتبر قانون 1/221 ثمرة جهود واسعة وطويلة بين وزارة الزراعة بالتعاون مع جامعة جورجيا والجامعة الأميركية في بيروت، بالإضافة إلى مسؤولين عن تربية الحيوانات".
بعد 6 سنوات من النضال، أُقرّ هذا القانون الذي يعتبر بداية إيجابية في ظلّ الأزمات التي تعصف بالبلد، ولكن تبقى العبرة في التطبيق، لاسيّما بعد استعراض حالات عن مقاومة المضادات الحيوية. لذلك نحن بحاجة إلى خطوات للمراقبة وتنفيذ تطبيق هذا القانون، وهذا أمر غير مستحيل، إذ قامت الصين في العام 2016 بتطبيق قانون مماثل، وبعد سنتين من تطبيقه انخفض معدّل مقاومة المضادات الحيوية في السلسة الغذائية والحيوانات الزراعية والبيئة.
ويختم قاسم قائلاً "الكوليستين حاجة ملحّة لبعض الأمراض، وقد وثّقنا في بحث سابق نُشر منذ شهر عن تزايد لبكتيريا E-Coli يحتاج إلى تدخّل الكوليستين. لذلك لا بدّ من الحفاظ على فعالية هذا العقار الذي يعتبر الملاذ الأخير. وكلّ ما نطلبه اليوم التركيز على تطبيق هذا القانون لأنّ صحّة الناس أولوية والوقت ليس لصالحنا في هذه المسائل".