"حوالى 10 آلاف حالة سرطان جديدة تُسجل في لبنان سنويّاً" وفق تقدير الاختصاصي في الأمراض السرطانية والدم ومستشار وزير الصحة الدكتور عرفات طفيلي في حديثه لـ"النهار". وبينما نفتقر إلى إحصاءات دقيقة تقدر مجموع حالات السرطان في لبنان، إلا أن الواضح أن حالات السرطان إلى إزدياد في ظل تراجع الميزانية المرصودة لمعالجة المرضى.
في اليوم العالمي للسرطان، رفعت وزارة الصحة الدعم عن بعض الأدوية السرطانية التي تُعوّض بجينيريك أقل ثمناً، فتم توجيه الدعم نحو أدوية الجينيريك بهدف خفض كلفة الدولار لجهة استيراد الدواء.
هذه الميزانية التي تنخفض يوماً بعد يوم تتسبب بكارثة جديدة لمريض السرطان الذي يجد نفسه عاجزاً عن مواجهة السرطان في إيجاد دوائه الفعال.
أما الكارثة الأكبر التي يتخوف منها رئيس جمعية "بربرا نصار لدعم مرضى السرطان" هاني نصار فهي "إعلان أكثر من جهة عن توجه لدى مصرف لبنان، لرفع دعم جزئي عن أدوية السرطان، من خلال إخضاعها كغيرها من السلع لسعر الصرف الرسمي الجديد الذي أقره قبل أيام، 15 ألف ليرة للدولار بدلاً من 1500 ليرة، ما يعني مضاعفة أسعار الأدوية عشر مرات بالنسبة إلى المريض".
في المقابل، لم يعد المستوردون يؤمنون الأدوية السرطانية الرخيصة الثمن لتفادي المماطلة مع مصرف لبنان لتسيير أمورهم، في حين أن مردودها ليس بالمهم. وعليه، اعتكف المستوردون عن تأمين هذه الأدوية، ما دفع بوزارة الصحة إلى رفع الدعم عنها وإبقاء الدعم على الأدوية الأغلى.
فمنذ أيام، أطلقت مريضة السرطان نانسي رفول صرختها "صرلي أسبوع ناطرة دوا السرطان.. ما بدنا نموت". هذه الصرخة كانت نتيحة التأخير في تأمين الدواء لها خلال تواجدها في أحد المستشفيات، وأكدت خلال فيديو انتشر لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي "أنتظر دوائي في الوزارة. وعلى الرغم من أنه موجود فإن المستشفى لم يستلمه. وسبب التأخير سياسي. والفساد هو من سبّب المرض لنا".
قالتها نانسي بكل صراحة ووجع "نريد أدويتنا ولا نريد أن نموت وهذا حقنا. يا عيب الشوم عليكم.. كيف إلكن عين".
ونتيجة انتشار الفيديو بشكل كبير، أوضحت وزارة الصحة في بيان مقتضب أنه "حصل تأخير في تسليم دواء المريضة نانسي رفول من الشركة فتواصلت الوزارة مع الشركة لتسريع عملية التسليم وتم تسليمه إلى المستشفى حيث تتلقى المريضة علاجها".
نانسي مريضة من أصل آلاف المرضى الذين يواجهون اليوم كارثة صحية تحرمهم من حقهم في العلاج والدواء.
في هذا الصدد، يشرح طفيلي أن "وزارة الصحة عمدت إلى بعض الخطوات العملية للحد من الهدر غير المبرر وضمان حصول المريض على دوائه من خلال:
1- الطلب من كل مريض سرطان إصدار رقم صحي موحد هدفه التمييز بين المريض اللبناني والمريض الأجنبي للحصول على الدواء المدعوم.
2- رفع الدعم عن الأدوية السرطانية الرخيصة (التي تبلغ كلفتها 5 إلى 7 دولارات) لدعم الأدوية السرطانية الأغلى.
3- في عاميّ 2013 و 2019 أصدرت وزارة الصحة التوجيهات لتنظيم قائمة أفضل العلاجات السرطانية المناسبة. في العام 2022، صدرت نسخة جديدة بالتوجيهات حيث أدخل عنصر التكلفة والتأكد من أن فائدة الدواء عالية وليست محدودة على المريض.
وبالتالي اذا كان الدواء باهظاً وفائدته محدودة يُستحسن البحث عن بديل آخر أو دعم أدوية أخرى أكثر فعالية، وهذا ما أدى إلى تخفيف استخدام جزء من الأدوية الغالية.
4- اطلاق نظام أمان في الوزارة للمريض الذي عليه أخذ دواء مرتفع الكلفة حيث يتوجب على طبيبه أن يرسل ملفه الطبي لدراسته من قبل لجنة مختصة للحصول على الموافقة.
5- إطلاق نظام تتبع الدواء لوقف التهريب ومراقبة مسار الدواء من الوكيل إلى المستشفى والمريض.
دواء ماء وكلفة عالية
منذ 4 سنوات، اكتشف آلان سليمان، وهو في شهر العسل أنه يعاني من سرطان الغدد الليمفاوية. لم تكن عوارضه التي تشتد ليلاً سوى جرس انذار أن هناك ما هو أخطر من مجرد تعرّق ليلي وضيق في التنفس. يتحدث آلان في اليوم العالمي للسرطان عن مشواره الذي يتأرجح بين تأمين دواء وانقطاعه، حالة مد وجزر لا تتوقف، يقول "تغيّر كل شيء منذ 4 سنوات، كنت عريساً جديداً وبدأت أعاني من عوارض صحية مثل التعرق ليلاً، ارتفاع في الحرارة بشكل مفاجئ، تعب شديد وضيق في التنفس. أجريت فحص الدم وصورة الرئة وكان الجواب "يجب استشارة طبيب أورام سرطانية".
جاء التشخيص ليزيل كل الشكوك، أنا مصاب بسرطان الغدد الليمفاوية، وأعرف جيداً ماذا يعني ذلك لأن والدي كان مصاباً بالنوع نفسه. قلتُ لنفسي مرحلة وستمر حتماً، لستُ من النوع الذي ينكسر، كنت على قناعة "اذا تركتُ السرطان سيأكلني، سأهزمه".
يتسلح آلان بإيمانه الذي كان رفيقه وسنده القوي في معركته مع المرض، لكن على أرض الواقع كانت المعاناة مختلفة. من الحصول على الدواء إلى انقطاعه أو توفره بكمية قليلة، انتقل آلان من مرحلة الحصول على العلاج إلى مرحلة تأمين الدواء حتى لا تتدهور صحته.
يعترف "بدأتُ أولاً مع الوزارة حيث كنت أحصل على أدويتي وانتهيتُ في البحث عنها في كل مكان. ساندتني جمعية بربرا نصار في بعضها وكان عليّ تأمين البعض الآخر في ظل الارتفاع الكبير في سعرها. أنا بحاجة إلى 4 ampoules من أحد الأدوية وتبلغ كلفة كل واحدة منها 3 آلاف دولار، أي ما مجموعه 12 ألف دولار.
لم يكن الدواء متوفراً في لبنان، فحصلت عليه من تركيا ليتبين لاحقاً أنه كناية عن ماء، ولقد كشفت الفحوص عدم تحسن حالتي لنكتشف أن الدواء مغشوش وغير نافع.
آلان واحد من عشرات المرضى الذين يلجؤون إلى الدول المجاورة لتأمين أدويتهم بعد تعذر إيجادها في لبنان، إلا أنهم دفعوا الثمن مرتين، الأولى بالكلفة والثانية بأنه مغشوش.
اليوم، آلان بحاجة إلى جلسته السابعة ويتوجب عليه تأمين 4 ampoules وهو عاجز كلياً عن تأمين كلفتها خصوصاً أنه عاطل عن العمل منذ إصابته بالمرض.
صرخته اليوم تختصر صرخات مرضى السرطان في لبنان الذين يواجهون خبيثاً سرطانياً ينمو في أجسادهم وخبيثاً آخر في انقطاع أدويتهم وحرمانهم من العلاج والشفاء.
وما كان في الماضي حق شرعي في الحصول على الطبابة بات اليوم أشبه بتوسل وصرخات لحصول مريض السرطان على حقه في العلاج.
مجزرة جماعية
يصف رئيس جمعية "بربارا نصار لدعم مرضى السرطان" هاني نصار ما يحصل "بالمجزرة التي ترتكب بحق مرضى السرطان. في العام الماضي، نزل مرضى السرطان إلى الشارع للمطالبة بتأمين أدويتهم، منذ سنة وحتى اليوم لم يتغيّر شيء وها نحن ننزل من جديد للمطالبة بوقف هذا الإجرام بحقهم".
وبينما تُكرم دول أخرى مرضى السرطان، نحن اليوم في لبنان ننعاهم، في هذه الوقفة التضامنية نحاول الوقوف إلى جانب المرضى الأحياء ونستذكر الأموات الذين كانوا ضحايا هذه المجزرة.
وأشار نصار إلى أن هناك توجهاً حسب ما يتحدث البعض، لرفع الدعم عن الأدوية السرطانية (من خلال إخضاعها كغيرها من السلع، لسعر الصرف الرسمي
الجديد أي 15 ألف ليرة للدولار الواحد بدل الـ1500). السؤال اليوم اذا كان هناك دواء سعره 9 ملايين ليرة على السعر المدعوم نعجز عن تأمينه فكيف الحال إذا رُفع
الدعم عنه ليصبح سعره حوالى 90 مليون ليرة؟وكما نعلم أن الضمان عاجز عن تغطية كلفة الأدوية الرخيصة فما حال الأدوية الباهظة الثمن؟
إذاً، برأي نصار أن "الدولة تقول لمرضى السرطان موتوا ولا داعي للعلاج. مع العلم أن المريض اذا تلقى علاجه كما يجب يُشفى من السرطان، لكن عندما نحرمه منه سيتطور المرض في جسمه ويخسر معركته في هذه الحياة. لذلك وقفة المرضى اليوم لمواجهة هذا القرار الذي يدور في أذهان البعض ومن يمضي فيه هو مجنون ومجرم".
أصبحت الأرقام في لبنان مرعبة في كل شيء، قاتمة في الزيادة المطردة للحالات السرطانية، وقاتلة ومنهكة في كلفة العلاجات التي حرمت كثيرين من متابعة علاجهم أو تراجع صحتهم بسبب عدم قدرتهم على الاستمرار في العلاج المنتظم.
في آذار 2021، سجل لبنان بحسب تقرير نشره "المرصد العالمي" المنبثق عن منظمة الصحة العالمية 28 ألف إصابة بمرض السرطان خلال السنوات الخمس الأخيرة، بينهم 11600 حالة في العام 2020.
كما احتلّ لبنان المرتبة الأولى بين دول غرب آسيا في عدد الإصابات بمرض السرطان قياساً بعدد السكان، بحسب تقرير صدر في العام 2018 عن منظمة الصحة العالمية. ولفت التقرير الى أن هناك 242 مصاباً بالسرطان بين كل 100 ألف لبناني، فيما سُجلت أكثر من 17 ألف إصابة جديدة في 2018، ونحو تسعة آلاف وفاة بالمرض.
لكن هذه الأرقام بحسب طفيلي "صحيح أنها أعلى من بعض الدول ولكن تختلف وفق طريقة جمع المعلومات والبيانات في دول أخرى. وبالتالي تعتبر أرقامنا دقيقة لأن كل مختبرات الأنسجة تُبلغ وزارة الصحة عن نتيجة المريض المصاب بالسرطان. كما أن وجود اللاجئين والمرضى القادمين من خارج لبنان (العراق) يُعدون من ضمن الأرقام التي يُسجلها لبنان، ما يُفسر زيادة الأرقام في البلد".
مرعبة هذه الأرقام التي كشرت عن أنيابها قبل الأزمة الإقتصادية - المالية في العام 2019، فكيف هي الحال اليوم مع تعذر تأمين مئات المرضى أدويتهم أو التشخيص المبكر للمرض؟
الحالات تقابلها ميزانية متقلبة أدت إلى صرخة جماعية أطلقها مرضى السرطان منذ انقطاع الأدوية في السوق اللبناني نتيجة تهريبها أو بيعها في السوق السوداء.
53 مليون دولار هو المبلغ الذي كانت وزارة الصحة اللبنانية تنفقه على أدوية السرطان للمرضى اللبنانيين الذين يتلقون علاجهم على نفقة الوزارة في العام 2017، أما اليوم فلم تعد الميزانية المرصودة لهؤلاء المرضى تتخطى الـ17 مليون دولار. ويوضح طفيلي أن "كل ميزانية وزارة الصحة تصل إلى 35 مليون دولار، 10 ملايين دولار لدعم المستلزمات الطبية و25 مليون ليرة لتغطية كل الأدوية السرطانية والمزمنة، وهناك حوالى 17 مليون دولار مرصودة لدعم الأدوية السرطانية. ما يعني أن 80 في المئة من ميزانية الصحة هي لدعم الأدوية السرطانية".
في حين يرى الاختصاصي في أمراض الدم والأورام البروفسور فادي نصر أننا "نشهد زيادة في الحالات المتقدمة للسرطان نتيجة التأخر في التشخيص المبكر وعجز الناس عن إجراء الفحوص السنوية للوقاية والكشف عن السرطان. هناك مشكلة حقيقية وهي أن الناس لم تعد تتعالج من الأمراض بشكل صحيح نتيجة كلفة الأدوية غير المدعومة، فميزانية الأدوية المدعومة لا تتخطى 25 مليون دولار شهرياً فيما الناس "عم بتموت لأنو ما عم تتعالج بشكل صحيح".
قبل العام 2019، كان لبنان من الدول المتقدمة في تقديم الرعاية الصحية والطب، أما اليوم فأصبح لبنان من الدول المتأخرة. ناهيك عن الكلفة المرتفعة التي بات على المريض تكبدها ليحصل على علاجه وزيادة فرصة شفائه.
ويشير نصر إلى أن "كلفة الجلسة العلاجية الواحدة تتراوح بين 3 إلى 5 آلاف دولار، والمريض بحاجة إلى جلسة كل 3 أسابيع. فكيف يمكن للمريض أن يتحمل هذه التكاليف؟ لذلك يقترح نصر أن يكون من بين الحلول لمواجهة الأزمة، أن تحول المصارف استثنائياً الأموال إلى المستشفيات لتغطي فواتير الأمراض المستعصية.