النهار

الصورة التي هزّت كثيرين: باهو قسطنطين بين الأمس واليوم
ليلي جرجس
المصدر: "النهار"
الصورة التي هزّت كثيرين: باهو قسطنطين بين الأمس واليوم
باهو قسطنطين (تصوير حسام شبارو)
A+   A-
 منذ سنة تقريباً، وقفت باهو قسطنطين في حديقة "جبران خليل جبران" أمام مبنى الـ"إسكوا" في بيروت للمطالبة بتوفير أدوية لمرضى السرطان. منذ سنة، تحوّلت باهو إلى أيقونة مؤثرة بعد أن انتشرت صورتها، وهي تبكي بحرقة وصمت وجعها ووجع مئات المرضى في لبنان.
 
صورة من عدسة الزميل في "النهار" حسام شبارو كانت كفيلة في أن تحوّل وجه باهو إلى رمز للقوة والصمود والعزيمة.
 
ما الذي اختلف بين الأمس واليوم؟
ما زالت باهو تقاوم السرطان بكلّ ما أوتيت من قوّة وإيمان وأمل، وما زالت تخوض معركتها اليوميّة لإيجاد أدويتها ومحاربة الخبيث في جسدها. لكن باهو، الأم والأخت والابنة، التي هزّت بدموعها اللبنانيين، تقف اليوم بوجه آخر، عليه ابتسامة جميلة، وخلفه روح مشاكسة، لتُكمل رسالتها ونضالها.
 
  
في 17 أيلول 2020 اكتشفت باهو إصابتها بسرطان الثدي. وفي تلك اللحظة بدأت رحلتها مع هذا الخبيث، في وطن كان من المفترض أن يقدّم لها حقّ الطبابة من دون خوف. التأخّر في تشخيص المرض، والاطمئنان إلى أن الورم الظاهر ليس خبيثاً، جعله ينتشر في كلّ أنحاء جسمها، إلا أن باهو لم تفكّر سوى بالانتصار عليه.
 
من دمعة إلى ضحكة، ومن خوف إلى أمل، ومن قلق إلى إصرار، اجتازت باهو كلّ تلك المشاعر والمسافات، لأنها فهمت - وَفق ما تقول لـ"النهار" - أن "السرطان أصبح صديقي، وتعلّمتُ كيف أفهمه ويفهمني. تعلّمتُ أن السرطان مخيف ومرعب، ولكنّني لن أدعه يقضي عليّ، وأن طريق المرض صعبة إلا أنها ليست مستحيلة".
 
 
تُعلّمنا الحياة دروساً كثيرة. بعضنا يختبر صفعاتها وخيباتها بالمرض، والبعض الآخر بالموت. لكلٍّ منّا قصّته، ولباهو قصتها التي كشفت عن أولى فصولها يوم وقفت مع شركائها في الوجع لتطالب بأدوية السرطان لها وللمرضى مثلها. بعد سنة، وبالرغم من أن الأزمة بقيت على حالها بين انقطاع وسوء إدارة لتوزيع الدواء وعدم تأمين الكمية الكافية لكل المرضى، فإن باهو تغيّرت.
 
تعلّمت باهو من هذا الخبيث جيّداً، فاختبرت الألم حتى باتت مدمنة للفرح. اختبرت العجز والخوف حتى أصبحت قويّة لا تهاب شيئاً. برأيها "إذا كنتُ مريضة سرطان فهذا لا يعني عدم الاهتمام بنفسي. على كلّ مريضة سرطان أن تعيش وتسافر وتستكمل حياتها وتحقق أحلامها، وأن تترك بصمتها وتميّزها. لذلك كوني سخيّة مع نفسك، اهتمّي بها، واعطي وقتاً لنفسك، وابتعدي عن كلّ ما يزعجك، والأهمّ ألا تخجلي بأيّ شيء قد تخوضينه أو تختبرينه، وكوني أقوى من كلّ شيء".
 
 
 
كانت رحلة علاجها شاقّة، مزعجة، قويّة ومدمّرة. "اضطررت كثيراً إلى دخول المستشفى نتيجة الآثار الجانبيّة للعلاج. هذا الخبيث الصامت كان يستفحل بجسدي. أرهقني وأتعبني، وخسرتُ شعري وأظافري وشهيّتي وقوتي. لم يكن سهلاً ما مررتُ به، ولكن أعرف أنّني اليوم إنسانة قوية ومؤمنة وصبورة وحالمة ولن أتخلّى عمّا وصلتُ إليه" تقول باهو.
 
كانت العلامات واضحة مع مرور الوقت لكنّها رفضت أن تصدّق أنّها قد تكون مصابة بسرطان الثدي. لكن تطوّر المرض بعد شهر من انفجار 4 آب جعلها تواجه حقيقة إصابتها بسرطان الثدي. تعترف باهو: "كنتُ أخاف من الاعتراف لنفسي أنه قد يكون السرطان.
 
تهرّبتُ من بعض العوارض، واعتبرتها مجرّد إجهاد نتيجة العمل، إلى أن انتشر السرطان في جسدي، وجعلني أقف معه وجهاً لوجه. كانت مواجهة مع نفسي قبل كلّ شيء، وانطلقتُ في رحلة العلاج التي بدأت تزداد صعوبة بعد أزمة انقطاع الأدوية، حين توقفتُ عن الحصول على أدويتي لمدة 3 أشهر ونصف".
 
 
قد يكون من أصعب ما يشعر به الشخص أنه "في ساحة المعركة يحارب السرطان محروماً من السلاح لمواجهته والقضاء عليه. هكذا كانت حالتي خلال أزمة الأدوية السرطانية التي بدأت تتفاقم أكثر. كنتُ محرومة من حقّي بالعلاج وفرصة الشفاء لأن دواءً مقطوع. والمؤسف أن الأزمة لم تُحلّ، ولكننا نحاول التحايل عليها بإيجاد أدوية بديلة لاستكمال المعركة وعدم الاستسلام" تروي باهو.
 
لكنّ المرأة التي لا تعرف الاستسلام، والتي تعمل منهدسة داخلية، استطاعت أن تُحصّن نفسها من الداخل جيّداً، وهذه القوة ساعدتها على الاستمرار قدماً. خضعت باهو لـ28 جلسة حتى السّاعة، إلا أنها لا تهتمّ للعدد بقدر ما تهتمّ بنفسها، بصحتها، وبما ستحققه في المستقبل. تؤكّد أن "الأهمّ هو التركيز على القتال لا الخوف. فصحيح أن السرطان في مرحلة من المراحل قد يؤثر على جسدك، ولكنه لن ينجح في التأثير على روحك وعقلك وضحكتك، لأن المرض ما بيقوى إلا على الضعيف".
 
 
هذا ما تريد باهو أن تُظهره لنا، وهذا ما تريد أن تقوله لكلّ مصاب بالسرطان يعيش تجربة صعبة وقاسية. لتلك الصورة دلالتها ووجعها وقصّتها، ولصورة اليوم فرحتها وأملها والعبرة. بالأمس بكت باهو لأنها محرومة من حقّها بالعلاج، واليوم تضحك باهو بالرغم من أنها لم تنهِ علاجها، لكن الفرق أن حبّها للحياة هو الأقوى.



اقرأ في النهار Premium