مكرهاً أو مبرّراً، قرّر وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال رفع الدعم عن حليب الأطفال بعد أن تعذّر وقف تهريبه كما هي الحال مع الأدوية السرطانية والمزمنة. جريمة أخرى تُرتكب اليوم في حقّ صغار لبنان، حيث انتصر التجّار مجدّداً وانتصر المركزيّ الذي رفع يديه عن دعم الأساس، في حين لا يتوانى عن دعم صيرفة بكلّ ما يلزم لإنعاشها.
هكذا من دون سابق إنذار، أعلنت وزارة الصحّة رفع الدعم عن حليب الأطفال بأنواعه كافة، تاركة الأهالي في مهبّ الأزمة الماديّة يحاولون البحث عن بديل أو الاستدانة لشراء الحليب لأطفالهم، وتاركة أيضًا التجار هاربين من وجه العدالة والمحاسبة! يسقط الضعيف في وجه القويّ، معادلة تتكرّر عند كلّ أزمة و"العترة على الفقير".
ولم نتسنَّ بعد أن ننسى فضيحة تلف كمية كبيرة من حليب الأطفال، تقدّر بـ20 طنّاً، لعمر ما بين سنة وثلاث سنوات، بسبب تخزينها لمدّة طويلة وانتهاء تاريخ صلاحيتها، بعد أن كان لبنان يعاني من أزمة شحّ حليب الأطفال نتيجة سياسة الدعم، وتأخّر مصرف لبنان في فتح الاعتمادات. هذا الاحتكار في تخزين المواد المدعومة انتهى وقتها في حرمان أطفال لبنان من حاجتهم، وبإتلاف الكميات عوّض تسليمها إلى الصيدليات.
الحليب الذي يعتبر الطعام الوحيد للرضيع وقوته اليوميّ الأساسي بات سلعة تُباع وتشترى حسب العرض والطلب في السوق السوداء، حيث تراوح سعر العلبة الواحدة بين الـ 450 ألف ليرة حتى المليون ليرة لبنانية. في حين يعاني الأهل في رحلة البحث عن الحليب المفقود بعد أن قرر التجار اخفاء مخزونهم إلى حين رفع الدعم الكامل لتحقيق الأرباح، من دون أن يسمع أحد أنين هؤلاء الأطفال وحرقة أمهاتهم.
منذ أشهر يعاني الأهالي من انقطاع الحليب في الصيدليات التي تستلم كمية محدودة جداً من المستورد، الخطة واضحة، تسليم كمية صغيرة إلى حين اصدار قرار رفع الدعم الكامل عنه. لا يفكر التجار بمصلحة الطفل ولا بعائلته التي تبحث عن علبة حليب في عشرات الصيدليات لتجد نفسها مكرهةً تحاول تأمينه من السوق السوداء.
عقلية الربح الممنهجة تفعل فعلها في هذا البلد المنهوب، أيهما أسهل رفع الدعم عن الحليب أو منع التهريب؟ وزير الصحة اختار الخيار المرّ في حين على اللبنانيين تجرّع هذه الكأس والخوف من تجرع كأس أكبر في رفع الدعم كلياً عن باقي الأدوية رويداً رويداً.
لكن هل أخطأ وزير الصحة فراس الأبيض في هذا القرار؟ يُدرك الوزير جيداً اللعبة التي يمتهنها التجار مع الحليب المدعوم كما هي الحال مع الأدوية. فمنذ أيام تمّ اخفاء علب حليب الأطفال (أبتاميل- نيرسي- نوفالاك) من رفوف الصيدليات بانتظار اقرار رفع الدعم عن هذه السلع، أما اليوم فقد تبلغت الصيدليات عن توفر الكميات المطلوبة والكبيرة ومن دون قيود وبأسعار مضاعفة!
هذه الصفعة التي توجب على الأهل تلقيها اليوم، خصوصاً أن 70 في المئة من الشعب اللبناني بات من الطبقة الفقيرة، لن تكون يتيمة، فهي ستواصل ضرباتها بمجرد تعذر الأهل عن دفع الثمن لشراء علبة الحليب التي أصبح سعرها 330 ألف ليرة بعد أن كان 160 ألفًا على المدعوم.
وتوجه وزير الصحة السابق حمد حسن عبر حسابه على تويتر بسؤال إلى مصرف لبنان والمتخاذلين "هل دعم حليب الرضع والأطفال الذي لا يتجاوز 5 ملايين دولار في الشهر هو سبب الأزمة المالية؛ ألم يكن أعقل وضع آلية تضمن وصوله إلى الأطفال وعدم حرمانهم إياه؛ وعدم اشراك المنظمات الدولية بتأمينه لغير اللبنانيين تقصير."
يشير بعض الصيادلة إلى أن "تسليم علب حليب الأطفال كان محدودًا جداً لا يتعدى الـ 6 علب شهرياً، في حين أن عمليات التخزين والتهريب متواصلة بمسار تصاعدي، خصوصاً إلى سوريا والعراق التي تستفيد من الأزمة الاقتصادية لشراء كميات كبيرة من الحليب والأدوية بالدولار وبيعها هناك".
يتحدّث النائب السابق عاصم عراجي عما يجري واصفاً الوضع "بالجريمة في حقّ الشعب اللبناني، فما يجري غير مقبول. لا يمكن لوم وزير الصحة الذي يقضي عمله الاهتمام بالصحة وليس بالليرة والأزمة المالية، ويضطر إلى اتخاذ قرارات قاسية، ووجد نفسه مرغماً على ذلك نتيجة التهريب منذ بداية الأزمة حتى اليوم. هذه ليست مسؤولية وزير الصحة فقط وانّما مسؤولية الدولة ككلّ، ومنها الأجهزة الأمنية لمنع التهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، ووزارة الاقتصاد التي لا تقوم بدورها في ضبط الأسعار، بالإضافة إلى تفاوت الأسعار بين صيدلية وأخرى من دون معايير ورقابة".
ويؤكد عراجي أنه "ضدّ رفع الدعم عن الحليب كما كنتُ ضدّ عدم زيادة الميزانية لدعم أدوية الأمراض السرطانية وابقاء الدعم على 35 مليون دولار.
ويتساءل عراجي "انه يمكن أن يتلاعبوا بالدولار كما يحلو لهم (ارتفاع او انخفاض يومي) ولكننا عاجزين عن دعم حليب الأطفال. وفي النهاية لا تتصرف الدولة مع القطاع الصحي بشكل جيد، حيث يتعذر على المواطن الدخول إلى المستشفى بسبب الفاتورة الاستشفائية الباهظة ولا يمكن للمواطن شراء دوائه بسبب كلفته العالية. كان يمكن للأموال التي سُرقت من صيرفة أن يتم دعم حليب الأطفال بها عوض أن تستفيد منها الشركات وأصحاب رؤوس الأموال والمصارف".
اليوم جاء دور حليب الأطفال والخوف أن يأتي الموس إلى باقي الأدوية التي ما زالت مدعومة بشكل جزئي أو كامل، فهل ينتظر المريض اللبناني ضربة موجعة أخرى قريباً؟